لا أحد من منجمي المستقبل يمكنه أن يقول شيئاً محدداً عن آفاق السياسة العربية كما ستلوح في العام القادم هل سوف يسقط آخر الديكتاتوريين في المشرق من أمثال الأسد في دمشق والمالكي في بغداد؛ هل ثمة انتصار لخط الثورات على خط الفتن الأهلوية. وماذا حقاً عن مصير أم الثورات في مصر، كبرى الشقيقات العربيات.
المسمّى بالمجتمع الدولي حاول، بدءاً من العام المنقضي حالياً، أن يمسك ببعض أهم خيوط الحدثان المشرقي؛ هذا المجتمع قرر في عقله الباطن. ألا يدع ‘المشرق’ يفر من بين أيديه. اعتبر أن ‘ربيعه’ هو عدوّه الاستراتيجي. ما تعنيه ثورات الربيع هو أن شعوبه الرئيسية حسمت أمر استقلالها. عَزَمت على أن تحكم نفسها بنفسها. تريد إسقاط نظام الحكّام الوكلاء لأسياد من ما وراء البحار . ‘الربيع’ يريد إلغاء هذه المرحلة من أكاذيب الوطنيات المستعارة، بعد أن استنفدت هذه الوطنيات ذخيرتها الملّفقة من أوهام المشاريع الفوقية والفاشلة سلفاً.
يعرف الغرب منذ القديم أن قيامة العالم العربي حراً مستقلاً متوحداً أو متضامناً. تعني شيئاً واحداً بالنسبة لأوروبا. هو عودتها إلى عزلتها الأزلية في شمالها الصقيعي. وذلك في الوقت الذي تولد، تنبثق فيه شبه قارة جغرافية ممتدة من المحيط الأطلسي غرباً إلى عمق آسيا، حتى حدود الهند شرقاً. قارة سيكون اسمها آراباسيا Arabasie. مقابل Eurasie [أوراسيا] لأوروبا. ذلك هو الرعب المتأصل في عمق اللاشعور الجمعي لبعض أحفادِ الصليبيين القابعين غالباً في خلفية كل علاقة بين قطبي الشمال /الجنوب. إنه الرعب الدهري من ابتعاث القطب المنافس في اللحظات الانعطافية من تاريخ تلكما القارتين معاً. انبعاث ‘الآخر’ الذي لن تقوم له قائمة إلا بالقضاء على الذات. هذا ما تعتقده الذات المتمركزة حول نواتها المميزة لعنصرها، لفرادتها حضارياً ما فوق حضارات المعمورة. ثنائية الغرب الشرق لا فكاك منها حتى في عصر العولمة. بل ربما أمست العولمة نفسها خادمة طيّعَه لعقابيل هذه الثنائية. لم تقبل الأمركة بتدشين عصر العولمة إلا تحت طائلة دخول العالم أجمع طوعياً تحت هيمنة الواحد الأحد. إنها امبراطورية العولمة المسخّرة سلفاً كرعية، بل كجائزة كونية يستحقها الفارس الأقوى، المنتصر الأخير عبر الحروب العالمية الأولى، والثانية، والثالثة الموصوفة بالحرب الباردة.
ألما يحدث الحاسم، منذ نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي، قد رسم المدخل الحتمي لعالم المستقبل الذي لا تزال الإنسانية تعيش عَتَبتَه الإفتتاحية. فقد كتب المحلل الياباني المتأمرك فوكوياما مؤلّفه الذي شَهرَه تحت عنوان: نهاية التاريخ؛ كأنه يحاول مصادرة الدلالة الكونية لاختتام مرحلة الحروب العالمية، بل الغربية بالأحرى، قبل أن يستوعبها وعي الإنسانية. يريد-هذا الكتاب- تكريسَ هذه الخاتمة لصالح انتصار الديمقراطية ظاهرياً، في حين يربط نجاعة هذه الديمقراطية باشتراط الوصاية الأمريكية على مسيرتها القادمة. فليس التاريخ بمعناه الكوني والإنساني، هو المنتصر لمسيرة الوعي نحو عقلنة الواقع، وجعله يتجاوز معيقات ارتقائه إلى درجات كما له الموعود، وتحقيق تطابقه التام مع بديهيات العقل . بل يريد المحلل أن يستثمر الإرث الفلسفي الشامخ لثقافة التاريخ، موظفاً بعض الأهم من مبادئه الكلية في تسويغ مشروع أمركة العالم، في تسخير ثقافة الاستراتيجية الموضوعية لإعادة إنهاض نوع من ذاتوية أخرى، مدعية لاستحقاقها أولويةَ التفّوق المطلق على كل ما عداها. ما يؤهلها أن تنشئ وحدها حكومة العالم أجمع.
بعد انقضاء حوالي ربع قرن على انطلاق أسطورة ‘نهاية التاريخ’ فلسفياً لم تستطع الإمبراطورية الأمريكية المحافَظَة طويلاً على صيغة: حكومة العالم بل على العكس سلكت، هذه الإمبراطورية، طريقَ انحلالها هي الأخرى. أثبتت ‘نهاية التاريخ’ أنها لم تأت بموت الاتحاد ‘السوفييتي’ وحده، من دون أن تمهد آجلاً لموت توأمه الثاني النقيض: إمبراطورية الأمركة. فحين يقبل مجتمع البيض الشقر التغني بترؤس الرجل الأسود على مملكتهم العظمى: أمريكا، هذا يعلن ببساطة أن فلسفة النهاية ستأخذ بطريقها كل صيغة امبراطورية مصابة بإفلاس أمجادها؛ وذلك تمهيداً لمولد صيغة ‘العالم’ كأوسع وطن قادم لدولة ‘حكومة العالم’ حيثما تغدو الإنسانية حاكمة نفسها بدون أية وكالات عنها، تزّيف اسماءَها الحقيقية، تكريساً لسلطة الجبروت الفئوي أو الأحادي لهذه الحضارة البيضاء أو لسواها.
‘الربيع العربي’ يجدد تدفقات ‘نهاية التاريخ’، يجسد بعض معانيها الاستراتيجية في سياق انجازاته. لعله أتى بعواصف النهايات على صنميات التسلط والتجبر والعسف البربري المطلق. هذا ما تتفهمه عقلية السياسة الباطنية لأسياد ‘الغرب’، فهم منخرطون في مكافحة مسيرته، بكل ما لديهم من خبرات التحريف والتلفيق والإجهاض والمناورة، يستمدونها من ماضيهم الاستعماري المديد.
لا يمكن للغرب أن يسمح بظهور ثلاثمئة مليون عربي، أحراراً سادةً على ذواتهم وثرواتهم ومصائر شعوبهم ودولهم. ذلك هو الكابوس المشؤوم الذي يجعل من الغرب أخطر عدو سبّاق إلى ترصّد كل ثورة وهي في بداياتها الأولى. إنه قادر على التنبؤ بمنحاها التطوري فيما لو تُركت لتحركاتها الذاتية.
ما تعانيه ثورات الربيع منذ شهورها الأولى، لم تكن كوارثُها فقط وليدة ظروفها المتزايدة في تعقيداتها. كان الغرب فاعلاً رئيسياً في خلفيات أكثرها خطراً وتفعيلاً لعقباتها الكأداء. كانت فاعلية الفوضى جاهزة دائماً للتشويش على عقلانية الممارسة الثورية، واغتصاب أهدافها المرحلية وتحويلها إلى عكس مراميها الأصلية. وعندما تتراكم أخطاء الثورة تصبح مشروعيتها موضوعَ إعادة نظر. فتبدأ الاعتراضات والاحتجاجات من هوامشها لكي تنفذ تدريجياً إلى عميق هيكلها التنظيمي. فكل ثورة متأرجحة أصلاً بين النجاح النسبي والفشل المتكرر. والثورة المقاتلة تكون ميادينها هي صاحبة الأمر الحاسم، فيما يتعلق بما يتبقى من رصيد الثقة ليس لدى محازبيها فحسب، بل في نفوس كوادرها الفاعلة كذلك. وفي هذه المنعطفات الرمادية تتوفر الفرص الذهبية كيما تتدخل الأصابع الأجنبية،الموبوءة بنوايا الشر المبيّت. فيجري إغراق الثورة نفسها بمروحة متنوعة من البدائل عن هويتها ومشروعها وأهدافها الحركية. إنها تلك البدائل الموصوفة غالباً بالداخلية، والطفيلية والمشبوهة، وإن تمسّح بعضها حتى بالعناوين القدسية البراقة في حد ذاتها.
لقد تكالبت على ثوراتنا الربيعية منذ انطلاقاتها المبكرة، البدائلُ المستهلكة من ماضويات الأدلجات، من مثل الماركسويات واليسارويات. والقومويات وأشباهها. حاولت كل ‘عقائدية’ بائدة أن تنبعث برميمها المتناثر، من خلال منابت الأزاهير الربيعية. فجاءت محاولاتها بالخيبات المتكررة. دللّت فورياً على أنها بدائل عقيمة، عروقها الجافة، عاجزة حتى عن إمكانية أن تمتص قطرات حيوية من جذور الربيعيات الجديدة الصاعدة. لم تعد أية أدلجة متحفية تنظيرية قادرة، مهما حاولت على إعادة تكبيل دفقات الينابيع الربيعية بمفرداتها المصنمّة ..
هكذا إذن انطوت صفحة هذه الفصيلة من البدائل /الايديولوجيات التي انقضت مع طواحن الهواء من معاركها اللفظية، في سعيها إلى اغتصاب معاني الثورة التدشينية وهي ما زالت براعمَ لأزهار واعدة بمستقبلها الموسمي الخاص والمختلف كلياً عن بهلوانيات التنظير المفتعل، المعهود في العصور الغابرة.
لكن البديل الأخطر كان بانتظار هذه الحصيلة من تجارب الأدلجات المستعادة، و العابرة ببعض هوامش وأطراف الحشود الجماهيرية؛ دون أن تحدث أو تخلّف أي فارق في طبيعة المد الثوري، كما هو في ساحاته اليومية. هنا يلعب التدين الشعبوي أدواره الملتبسة. وأول هذه الأدوار هو ادعاء المتاجرين به أنه هو صانع الهوية الفورية لكل ثورة ربيعية. وهذا يعني عملياً أن الثورة لم تعد مالكة لشخصيتها العصرية المميزة. لم تعد مسيرةَ تغيير وتجديد بقدر ما يمكن قلبُها إلى عدوة لكل تحرير. فالماضي لن يعود إلا إذا اقْتُلع الحاضر من زمان الناس، واستُبدل مجتمعهم بمجتمع أجداد أجدادهم. ولكن عندما سيعود هذا الماضي لن يجد أمامه وطناً يؤويه، أو حضارة حية يتعامل مع معانيها وقيمها. فلن يكون غريباً إذن أن يتبارى دعاةُ قتل الحاضر في أن يقتتلوا فيما بينهم. هكذا يمكن لأمة كاملة أن تنوب عن جميع أعدائها في نَحْر أجيالها، وفي تحويل ثوراتها إلى مسلسل من المقتتلات البدائية الجزافية.
ميلاد قارة العرب والإسلام معمّد بالدم. فأي فجر وضّاء يمكنه بَعْدُ أن يقشع الظلام عن البصائر قبل أن تُبليها مشاهدُ الفظائع فتجعلها امتداداً إنسانوياً بائساً لها..
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
سابدء من حيث انتهى الأستاذ. يجب أولا أن لانفكر بعقلية امبراطورية هارون الرشيد. ففي عالمنا العربي هناك قوميات لايمكن التنكر لها. ثانيا أسأل الأستاذ عن دور المثقف في الثورات .هل السباق أو المتأخر؟ لماذا لم يشكك أي مثقف قبل الربيع العربي في وطنية القذافي أو آل الأسد؟ فما قيمة المثقف حين ينتظر أن يقول الناس ان هذا منكر؟ شيئ آخر. ليس كل العرب معدمون بسبب أمريكا و أوروبا . فأنا شخصيا فرح لرفاه سنغفورة و دبي.
هناك قومية عربية و دولة واحدة ، يا ليتنا نعود لدولة هارون الرشيد …