ما يحدث في بعض بلدان الربيع العربي، حيث بدأت بنجاحات مبهرة ثم دخلت في دوامة العثرات، يستوجب طرح موضوع طبائع الإستبداد في المجتمعات العربية. فأن تخرج الملايين من أجل الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة، أي من أجل الديمقراطية الشاملة العادلة في نهاية الأمر، ثم تعود القهقرى، بسبب كرهها لممارسات خاطئة إرتكبتها هذه الجماعة السياسية أو تلك الجماعة الدينية، وتقبل وتهلل لقوانين جديدة وقرارات رعناء تحد الحريات وتمارس بذاءات الثأر والظلم والإقصاء وحملات الإعلام المبتذل الطاعن في شرف كل معارض لتلك القوانين… أن تعود تلك الملايين القهقرى بهذا الشكل الدال على عدم نضجها العاطفي والذهني والقيمي، فان كل ذلك يطرح العديد من الأسئلة التي يجب أن تطرح بأمانة وموضوعية.
السؤال الأول والأساسي: هل ثارت الملايين من أمة العرب ضد الظلم أم ضد الإستبداد؟ وبمعنى آخر هل خرج الملايين من أجل استبدال مستبد ظالم بالمستبد العادل الشهير الذي طرحه الإمام محمد عبده وأراده بعض المفكرين والفقهاء العرب أن يكون قدر هذه الأمة في شؤون الحكم والسياسة؟
هنا نحتاج أن نذكر بأن أدبيات السياسة، حتى في الغرب الديمقراطي، تشير إلى أنه حتى أشد الليبراليين من الفلاسفة في الغرب يعتبرون أحياناً أن الإستبداد في الحكم سيكون مقبولاً ومشروعاً إذا كان المحكومون غير قادرين على الممارسة الصحيحة الفاعلة للشأن السياسي.
لنلاحظ بتمعن شديد الشرط الذي وضعه أولئك الفلاسفة لقبول الإستبداد، شرط عدم أهلية المحكومين لممارسة السياسة بشكل صحيح وفاعل. وهذا سيؤدي بنا إلى طرح السؤال الثاني بخوف وتردد: هل حقاً، كما يحاول أعداء الديمقراطية أن يقولونه لنا، بأن الجماهير العربية ليست مؤهلة لممارسة السياسة بفاعلية تؤدي إلى قيام حكم الناس لأنفسهم بواسطة أنفسهم ومن أجل أنفسهم؟
نحن الذين رحبنا بثورات وحراكات الربيع العربي نعتقد بأن جواب السؤالين الأول والثاني في جوهرهما الأول هو أن الناس قد تعبوا عبر القرون من حكم الفرعون لعبيده الطائعين والراعي لرعيته المهمشين ورب العائلة لأبنائه القصر وصاحب المكرمات لمن ينتظرون عطاياه، وجميعها أنواع من حكم الإستبداد المتعالي أياً كان الرداء الذي يرتديه. وفي جوهرهما الثاني هو إقتناع الناس بأن العربي، مثله مثل بقية الخلق، قادر على حكم نفسه بنفسه بمسؤولية وبدون أي شعور مرضي بالدونية أو النقص.
وإذن فملايين ثورات وحراكات الربيع العربي، حتى ولو كانت بالطبع قد ثارت ضد الظلم والفساد والسرقات والمحسوبية وغيرها من علل مجتمعاتها الكثيرة فأنها في الأساس كانت تدرك ببصيرتها وتعرف من خلال تجاربها التاريخية بأن معالجة تلك العلل ودحرها لا يمكن أن ينجحا إلا إذا تم دحر أهم راع لتواجدها، ألا وهو العيش تحت حكم الإستبداد، حكم الاستئثار بالرأي والقرار وتصريف أمور المواطنين بلا خوف من أية مساءلة ومحاسبة.
إنه الحكم الذي يحمل في طياته القدرة على إفساد الدين والعلم والمال والأخلاق والترقي والتربية كما بينته من داخل الثقافة العربية الإسلامية كتابات الفقيه المستنير عبدالرحمن الكواكبي في كتابه الشهير (طبائع الإستبداد ومصارع الإستعباد).
واذن، فإذا كانت ملايين الربيع العربي قد ثارت في الأساس ضد الإستبداد ومن أجل الديمقراطية الحقة والدستورية غير الصورية فلماذا، وهذا هو السؤال الثالث، تتعايش الآن كما يبدو في الظاهر مع أنواع من الحكم المشرع والممارس لكل ما هو غير ديمقراطي ولكل ما هو استبدادي؟
هل نحن أمام ظاهرة استراحة المحارب المنهك المؤقتة أم أننا نعيش ما قاله الكاتب المفكر الجزائري الفرنسي ألبير كامو ‘بأن كل ثورات العصر الحديث قد انتهت بازدياد سطوة الدولة’؟ وفي حالتنا العربية سطوة ممثلي الدولة العميقة من عساكر وأصحاب ثروة وإعلاميي سوق النخاسة وفقهاء السلطان ومن ليبراليين ويساريين وقوميين انقلبوا وخانوا كل مبدأ أخلاقي وكل حلم نهضوي للأمة؟
لا يوجد جواب سهل وقاطع، والمشهد السياسي العربي يشير إلى وجود إضطراب وغموض في فهم أسباب ومنطلقات وركائز ثورات وحراكات ربيع العرب عند البعض، وهؤلاء يريدون أن يبقوا الإنسان العربي في حيرة وتردد دائمين.
لكن من الضروري أن يتذكر شباب الثورات والحراكات، إذا كانوا يريدون تجنيب مجتمعاتهم الدوران في دوامة استبدال استبداد سابق باستبداد لاحق، أن يتذكروا قولاً عميقاً للفيلسوف الإغريقي ديموثينس، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد عندما لم يوجد بعد إعلام مضلل بخبث، وهو أنه ‘يوجد طريق سليم واحد لمقارعة الديمقراطيين حكام الإستبداد، طريق الشك’.
مطلوب من شباب الثورات والحراكات أن يمارسوا الشك الدائم في كل ما يقوله ويفعله ويعد به المستبدون الجدد حتى لو إدعوا فعل كل ذلك، زوراً وبهتاناً، باسم الملايين.