ما يوازي فلسفة قتل الموتى في ثقافتنا من الناحية الاركيولوجية هو تدمير الاطلال، وكلا هذين المستويين من الاعلام يجري على قدم وساق، وان كانت السنوات الاخيرة قد اتاحت لما كان طيّ الكتمان ان يطفو على السطح، تماما كما يرشح الدم من جثة مهربة ليكون اول شاهد على نقصان الجريمة وعدم اكتمالها، فالماضي كلمة فضفاضة تتسع لكل ما حدث في الكون قبل هذه اللحظة، رغم انه ليس كذلك، لأنه اولا غير متجانس، فمنه ما باد وانهى التاريخ صلاحيته ومنه ما باض، ثم فقس البيض بعد قرون عندما اصبحت الحاضنة ملائمة، لهذا هناك نمطان على الاقل من الماضي، ما سقط منه وما هجع، وحين يتساءل ادونيس في قصيدته مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف وهي مرثية غير تقليدية لعبد الناصر قائلا :
لماذا يسقط الماضي ولا يسقط ..
فان هذا السؤال يحمل قوة المساءلة خصوصا حين يجري توظيفه في سياق شعري رؤيوي، والماضي قدر تعلقه كموروث ومنجز حضاري بنا نحن العرب تعرض الى عدوان مزدوج، فمن جهة تسلل فائض التخلف والشقاء من الراهن اليه ليعيد انتاجه وفقا لمفاهيم قاصرة، ومن الجهة الأخرى تمدد نحوه أعداء ليعيدوا ايضا انتاجه لكن باسلوب مغاير بحيث ينسبونه الى ثقافاتهم وبالتالي يقضمون هوية لا معنى لها اذا لم تكن ارثا وحمولة ثقافية وقومية تتناقلها الاجيال.
في العدوان الأول وهو ذاتي ومحلي، تجلى هذا الانتحار الحضاري في السطو على المتاحف ونهب ما امكن منها للاتجار به وتهريبه ليس فقط بدءا من احتلال العراق بل قبل ذلك بكثير، يروي الصديق الراحل جبرا ابراهيم جبرا الذي اقام معظم حياته في العراق، انه شاهد فلاحين وبدوا يسخرون من اجانب وهم يجرون حجارة في الماء ولم يكن عدم الاكتراث هذا الا من افراز جهل الاحفاد بما انجزه الاسلاف، لكن هذا المشهد اصبح اكثر فظاعة بعد احتلال بغداد، وبعثرة احشاء المتاحف على الارصفة، ثم تكرر في مصر غداة اندلاع حراكها مما دفع المخرج السينمائي خالد يوسف الى ان يصرخ عبر الشاشة مستغيثا ومطالبا المثقفين والجيش في بلاده لحماية متحف الانتيكخانة في ميدان التحرير بعد محاولات جرت لنهبه واستباحة كل ما فيه، ويقال ان هناك مومياوات تحولت الى هباء اثناء محاولة السّطو، اما ثالثة الاثافي فهي ما حدث لمتاحف سوريا والبالغ عددها اكثر من عشرين، حيث لم يتوقف الامر عند السطو على مقتنياتها بل تخطاه الى اعدام أبي العلاء المعري الذي تدحرج رأسه الحجري بعد تحطمه، ولربما كان رهين المحبسين سعيدا بعماه عندما حدث ذلك لكي لا يراه،فلا القلاع ولا الاطلال نجت من الاعدام والسّطو، وما أنجز عربيا ومحليا على هذا الصعيد لم يفلح فيه حتى هولاكو عندما اجتاح العراق عام 1258 م.
نعرف ان المتاحف في العالم كله بدءا من لوفر باريس لم تتحول الى معابد لهذا فهي محروسة بقوة، وبالرغم من ذلك لم تسلم اللوحات من تجارة المافيا، لكننا لم نسمع عن محاولات مجانية لتحطيم تماثيل او تمزيق لوحات لمجرد افراغ المكبوت الغامض الذي يختلط فيه النفسي بالجنسي والاقتصادي.
وحين تعلن الاحصاءات الحقيقية عن خسائر متاحفنا وما جرى لاطلال حضارتنا قد تكون الارقام كارثية، بحيث تستدعي هذه المرة ذرائع لتدخلات خارجية باسم حماية الاثار لأن أحفاد من يحرسونها ليسوا امناء عليها وهي ملك للانسانية كلها تماما كما حدث لتماثيل بوذا في افغانستان.
* * * * * * * *
مهّد لهذا التسلل نحو الماضي والسّطو عليه ماديا ومعنويا، ثقافة الاعلان التجاري التي حاولت استثمار الاثار سياحيا، وهنا سأذكر بعض الأمثلة :
اعلان عن مكيفات هواء، يبدأ بتذمر طلاب وطالبات في الفصل من جمهورية افلاطون فهي خانقة، وسرعان ما يتضح السبب وهو خلوها من نوع معين من مكيفات الهواء التي كرّس الاعلان لها . اعلان آخر، صلاح الدين الايوبي يقول ان ان هذا البطل التاريخي كان سينجز من الانتصارات اضعاف ما أنجز لو استعمل حذاء من طراز معين . واعلان ثالث عن سيارة يقول انها لو نافست الجمل في الصحراء لتغير مصير العالم !!!
هذا اضافة الى اعادة انتاج أغنيات قديمة ومن صلب الفولكلور، بحيث تبدل مفرداتها ويبقى الايقاع على ما هو عليه، وتوظف اخيرا للاعلان عن نوع من المساحيق او الصابون ! هذا التمدد الذي مارسه فائض التخلف والماسوشية التي تتلذذ باحتقار الذات نحو الماضي تحالف معه تسلل الاعداء، ويكفي ان نتذكر ما قاله بيغين وهو يزور الاهرامات بعد معاهدة كامب ديفيد، فقد قال ان اسلافه اليهود هم الذين شيدوها، وقد رأيت ذات يوم دليلا سياحيا اسرائيليا يضيف امكنة اثرية من الاردن ولبنان الى خرائطه باعتبارها تراثا يهوديا.
ورغم ان هناك امثالا شعبية عديدة تمجد الماضي منها من لا ماض له ليس له حاضر، او من فات قديمه تاه كما في مثل مصري، الا ان ما يمارس فعليا هو عكس ذلك تماما، وقد يكون ما يبدو شبيها بالحداثة في حياتنا وهو في مضمونه ليس كذلك هو ما خلق ردود افعال على الماضي باعتباره مرادفا للتخلف ومن امثلة ذلك، استبعاد الاسماء التراثية والتي تحملها جداتنا وامهاتنا من قائمة الاسماء الجديدة، وقد يورط الاباء الان ابناءهم وبناتهم اذا اطلقوا عليهم اسماء امهاتهم وجداتهم مثل فاطمة وزينب وخديجة لأن هذه الاسماء تعرض حامليها للسخرية.
وقد تصلح الرؤية الخلدونية حول الغالب ومحاولة المغلوب التماهي معه لتحليل مثل هذه الظواهر، لكن ما لم يشهده ابن خلدون في زمانه ساهم الى حد كبير في افراغ هذا الكائن من نفسه وليس فقط من ثقته بها !
ومن يعانون من مركبات نقص ازاء الآخر الغالب يشعرون بأن كل ما يتعلق بهم هو اشبه بالعورة التي يجب التستر عليها، فهم يفرطون في المحاكاة لأنهم مأخوذون بالسطحي والظاهر فقط، تماما كما ان صفة العالمي سواء تعلقت بكاتب عربي او صيدلية او دكان تصبح كحجر المغناطيس الذي تفقد برادة الحديد المقاومة ازاء مجاله، فالمحلي هو المرادف لكل ما هو فقير وبائس وغير معترف به، وقد ننفرد نحن العرب باطلاق صفة كاتب عالمي على كتّاب ينالون جوائز او تترجم اعمالهم حتى لو كانت هذه الترجمة تلبية لهواجس استشراقية، ولا اتصور ان وسائل الاعلام في فرنسا او بريطانيا او ايطاليا تمارس مثل هذا الالحاح على عالمية كتابها وكأن شهرتهم خارج بلادهم اصبحت ملاذا لهم كي يخلعوا هويتهم ونسبهم الوطني.
* * * * * * *
ما نخشاه دائما هو ردود الأفعال التي تراوح بين الثأرية والانتقام، فهي البديل الأدنى للتحولات البنيوية في حياتنا، وحين افرط شعراؤنا القدامى بمخاطبة الاطلال واستدعوا اصحابهم واخلاّءهم كي يبكوا معهم عليها، جاء وقت قال فيه ابو نؤاس ساخرا : ما ضرّ ذلك الشاعر الطللي الواقف لو انه جلس، رغم ان هناك محطات طللية تراجيدية ليست من باب التقليد والمحاكاة، منها قبر مالك، ورثاء ابن الريب ودموع شجرة الكافور في مرثية الفارعة !
لقد افتضحت الاعوام القليلة الفائتة ما كان يسمى نظريا وبتأنق بلاغي كاذب جدلية الحاضر والماضي، لصالح رؤية احادية البعد، لا ترى من الغابة غير آخر ما ظهر من عناقيد على اشجارها، والحالة الوحيدة التي عومل فيها الماضي بقداسة ومعصومية هي لاسباب ايديولوجية وان كان هذا التقديس قد اساء الى المقدس، بل دنّسه لأنه حوّله من فكرة ومفهوم الى وثن، ومن واقع ترابي الى أيقونة، واعترف انني منذ لاحظت بعض الناس في بلادنا يعلقون صور امكنة ومقدسات ومعابد على جدران بيوتهم شعرت بالفزع خشية من التوثين والايقنة خصوصا في ثقافة شعبية لم تكن جدران البيوت فيها تستضيف على مساميرها غير صور الموتى !!
قل لمن يبكي على رسمٍٍ دَرَس …ماضَر واقفاً لو كان جلس
تحية كبيرة . مقال جميل
الحفاظ على الماضي يحتاج للوعي وهذا يلزمه العلم لقد تم تجهيل اجيال بحجج مختلفه وساهمت به قوى متعدده شعوبنا وللاسف اصبحت بدون هدف يجمعها وهذه مهمه المفكرين قبل ان نتحسر على اثارنا الدارسه ماذا فعلنا لقرى ونجاع ازيلت عن بكره ابيها في فلسطين وغيرها يبكون على الاندلس وحيفا ويافا على مرمى حجر افيقوا يا عرب .