مخيال الأمكنة لعاطف عبد العزيز: استعادة للتاريخ ووعي بعبقرية المكان
مخيال الأمكنة لعاطف عبد العزيز: استعادة للتاريخ ووعي بعبقرية المكانالقاهرة ـ القدس العربي ـ من محمود قرني: الشاعر عاطف عبد العزيز يستعيد جوهرة الشعر مجددا، ويتواشج مع أقنوم الأزمنة والتواريخ وتجليات الأمكنة وروائحها، وثمة تأكيد علي أن قصيدة النثر مع ديوانه الجديد مخيال الأمكنة تستعيد منطقا غالبا لدي شعرائها الموهوبين، فتأكيد عبد العزيز علي الانفتاح في الاتجاهات الأربعة للون يشي بالكثير من التمرد علي نمطية هذه الشعرية الوليدة. والديوان ليس محاولة عاطف الأولي بل هو الرابع في عقد بدأ منذ التسعينيات بدواوين ذاكرة الظل ثم حيطان بيضاء وأخيرا كائنات تتهيأ للنوم الصادر عام 2001 عن دار ميريت للنشر، والديوان الجديد تنتظمه طللية شعرية، أو مرثية تبكي الديار وبقاياها، وإن لن تفصح عن وجهتها، فهي تجري مجري مختلفا عن بكاء الديار في الشعر العربي الذي كان يمثل رحلة التكوين الأول لشعرنا الجاهلي، وامتد معه حتي العصر العباسي، غير أن مخاضات الشعر العربي المتصلة ألقت في النهر برواسب غير منتهية ومياه غير منتهية أيضا وعاطف عبد العزيز واحد من هؤلاء الذين يخرقون طاقة الثبات بحثا عن مغامرة بدت مؤسسة علي وعي يمتد علي مدار عشرين عاما، والديوان بهذا المعني يجيب علي العديد من التساؤلات حول قضايا قصيدة النثر التي لا زالت خلافية في بعض جوانبها.فالتعيين التاريخي والمكاني اللذين يقدمهما الديوان يكسران شوكة التحلل من الأبعاد التي تثيرها معركة الهوية، في سبيل انتزاع خطوات متقدمة في الحقل العولمي ببعده ما بعد الحداثي، وهي صورة لن تتحقق بالمعني الإبداعي وإن دارت حولها سجالات نظرية واسعة وممتدة، وهي سجالات انتهت إلي تأكيد المأزق الذي تواجهه الدولة الوطنية في العالم الثالث وليس العكس، حسبما كان يروج دعاة النص الإنساني.وربما الأمر علي هذا النحو يعصف برؤوس كثيرة ظنت في لحظة أن إنسانية الإبداع نقيض لخصوصيته، وأن قصيدة النثر أتت لكي تكون ضد اللغة والخيال كأقنومين جذريين في شعريتنا قديمها وحديثها.وجدير بنا أن نحيل إلي مأزق التجارب المجايلة القريبة والراهنة، التي اعتقدت في لحظة أن تقليم الأظافر والاحتلام، ومداعبة أصابع الأرجل ومضايقات دجاج الأمهات مسوغات كافية لإعادة القصيدة من غلظة الخارج إلي نعومة وفرادة الداخل.إن ديوان مخيال الأمكنة يجيب علي الكثير من أسئلتنا التي تبدو علي محك التجاوز، لكنها في واقع الأمر محل لغط لا يمت للشعر بصلة وكانت تأثيراته السلبية أكبر بكثير من تأثيراته الإيجابية لا سيما مع ذيوع وانتشار قصيدة النثر في العالم العربي مع حلول التسعينيات من القرن الماضي.ورغم هذا الذيوع والانتشار يبدو غريبا استمرار السجال في معركة عالية الوطيس تطرح السؤال مجددا علي الآباء الشرعيين للقصيدة ابتداء من حسين عفيف مرورا بمحمد الماغوط، خطابها الأهم مع حلقة شعر اللبنانية ، ومن عجب أن نري كلا من امتصوا رحيقه واعتاشوا عليه كنباتات شيطانية تنكره الآن تماما وتبدو متجاسرة علي صوته الخائض في خصوصيات غير مألوفة لديهم وليس لتجلياتها أية قداسة.ومن المرجح أن يكون عاطف عبد العزيز تلميذا في هذه المدرسة الواسعة للماغوط وغيره، بالمعني الواسع للكلمة لكنه علي النقيض ممن يخجلون من مساقط رؤوسهم ومن جلابيب أمهاتهم ومن السلالة التي انحدر منها آباؤهم. إن الديوان في جملته نوع من المشايعة المنفتحة لعبقرية المكان وهدير الزمان وعذوبة وصدق الطاقة الخلابة في اقتناص ما هو شعري من بين أنياب التاريخ ومن تحت أقدام الجغرافيا.إن زمان ومكان الشعرية هنا تكلله الأجواء الدافئة لناس الزمان القرين باللحظة الشعرية، آلامهم، وسقوطهم وهذياناتهم.وتبدو علي نحو واضح الصعودات الشرسة والمفاجئة لدولة محمد علي الكبير في مصر كخلفية أساسية لمشهد الديوان، لكن هذه الخلفية سرعان ما تتواري خلف تاريخ من الهزائم التي تبدو جلية في لغة النصوص وجنرالاتها المحتمين بالحوافر والبنادق وغباء المعارك.في قصيدة التغريبة يطلق عاطف عبد العزيز أول طللياته حيث يقول: قدماي الكبيرتان آخر ما تبقي من الأسلاف، إنهم الزراع، الزراع الذين صاروا غزاة، حتي تذوقوا النبيذ علي أبواب أنطاكية ، لكن لا تدوم هذه الصورة للأجداد للغزاة سوي بضعة أسطر ثم يأتي الجنود الذين انتهوا إلي النعاس حيث يقول: كان طبيعيا ـ بمضي الوقت ـ أن تتهرأ أحذيتهم، صاروا يتعثرون إذا مشوا حفاة في السكك، لذلك استبدلوا بها لفائف الكتان، ثم جلسوا مقرفصين علي الجسور يرقبون المحاريث الصدئة، ويحملون فوق أكتافهم عصيا من أغصان غلاظ، أجل.. كانت غلاظا بما يكفي لملء التجاويف التي حفرتها البنادق .وتبدو هنا الدلالة الكسيرة لاستبدال البنادق بالعصي، والمحاريث الصدئة والنوم في حجور النساء وكأنها البيارق التي انتهت فجأة إلي التراب معلنة انكسار الغازي والانحسار أمام أبواب أنطاكية الموعودة، ومن هنا كانت القصيدة التالية مباشرة تحت عنوان الكيت كات المنطقة الشعبية الأشهر في القاهرة الكبري، تبدو وكأنها انتسار متعسف وإغلاق لقوس أوسع بكثير من جغرافيا مستهدفة ومحصورة بين شاطئي نيل الكيت كات وظهور الحوائط والبيوت الواطئة في منطقة إمبابة، رغم أن الشاعر يعود مرة أخري لاستكمال عالمه في قصائده مصحة الضمائر ، المقهي ، المدينة دون ملك ، و حراسة الخراب و القصيدة الأخيرة علي سفح مشمس التي يقول في مطلعها: أربع عشرة مرة تتكرر هذه العبارة في أوراق شاعر الحملة، الذي سأسميه فرناندو، وأربع عشرة مرة رغم خدمته العسكرية القصيرة .ورغم المراوحات الواقعة بين فضاءات القصائد الخمس عشرة التي تضمنها الديوان إلا أنها تظل مسكونة بروح المكان وشخوصه في درامية لا تخلو منها فنية مؤطرة للسرد، واللغة.فالملاحظة الأساسية التي غلفت فضاء الديوان هذه اللغة التي تسعي لأول مرة نحو التحرر من حنينها وغنائيتها الممجوجة، لتتخذ لنفسها واقعا جديدا لا يقف عند حدود الوصف ولا يتورط في أحكام القيمة والشعرية الفائضة، وكذلك دون التخلي عن دور اللغة الخالقة للمعني، في صورة ربما تجاوزت المفهوم الوظيفي المباشر.في المقابل تتبني سرديات النصوص منطقا تاريخيا يبعد درجة عن الرصد المباشر، وهو الأمر الذي أضفي مسافة أسطورية علي هذه السردية، فبدت الشعرية أكثر عمقا من معناها الانعكاسي وأكثر بعدا عن التركيب والتعقيد، وهي مسافة لا يمكن ضبطها إلا عبر الخبرة الواسعة والدقيقة حيال تجربة شعرية غير متعسفة ضمنت لنفسها درجة معقولة من التفرد والجدية.بقي القول إن الديوان هو الأول في سلسلة هامش التي يشرف عليها ويصدرها الشاعر السوري المقيم بالقاهرة وليد خليفة، وهي تصدر ضمن مطبوعات جمعية ثقافية فرنسية تحت التأسيس، يقول وليد إنها تهدف إلي تفعيل التبادل الثقافي بين الثقافتين الفرنسية والعربية.0