تجمّعت لديّ منذ التسعينات، وأنا أعدّ رسالة دكتوراه الدولة عن أبي تمّام، مادّة غزيرة تتعلّق بالعلاقة بين النصّ القرآني وشعر العرب ونثرهم، ولم يكن بالإمكان استثمارها كلّها.وكنت بعد مناقشة الرسالة، أعود بين الفينة والأخرى، إلى هذه المادّة أقلّب فيها النظر عسى أن أصرّفها في بحث أو مقال. والحقّ أنّي فعلت في غير موضع كلّما استشعرت حاجة إلى ذلك،وراعني ما راع غيري من هذا البؤس الثقافي المريع الذي يكشف عنه كثير من السلفيّين والسلفيّات. فثقافة الإسلام ثقافة رحبة اتّسعت للمعرّي والتوحيدي وابن الروندي والغزالي وابن رشد وأبي نواس والحلاج وابن عربي…وكان بعضهم لا يتحرّج في سياق الممتع المفيد أو الحسن النافع ،وهي الثنائيّة التي يصعب أن نفهم ثقافة الإسلام بمعزل عنها،من محاكاة النصّ القرآني.
ومثل هذه المحاكاة قديمة في التّراث العربي، حتى منذ عهد النبوّة. ولكنّ ‘الأغرب’ أنّها تواصلت بعد ذلك على نحو ما نجد عند الإمام السيوطي صاحب ‘الإتقان في علوم القرآن’ في مصنّفه الممتع ‘رشف الزّلال من السّحر الحلال’. ويمكن أن نشير أيضا إلى كتاب المعرّي ‘الفصول والغايات’ الذي يرى فيه البعض ومنهم الباكستاني طارق علي ‘تقليدا ساخرا من القرآن’، برغم أنّه ـ على ما يتهيّأ لي ـ تمجيد للذات الإلهيّة. غير أنّ المحاكاة تتجلّى أكثر في شعر العرب. ومن الصّعوبة الإلمام بها في حيّز كهذا، ونقتصر منها على هذا الشعرالذي نحا فيه أبو تمّام منحى القصص القرآنيّ. من ذلك ما جاء في أخبار أبي تمّام، فقد نقل الصّولي عن علي بن محمّد الجرجاني، قال: ‘اجتمعنا بباب عبد الله بن طاهر من بين شاعر وزائر، ومعنا أبو تمام، حجبنا أيّاما فكتب إليه أبو تمّام
أيّهذا العزيز قد مسّنا الضّرّ وأهلـنا أشــــــــــــــــــتاتُ
في الرّحال شيخ كبير ولدينا بضاعة مزجـــــــــــــــاةُ
قلّولنا طلاّبها فأضحت خسارا فتجاراتنا بــها ترّهــــاتُ
فاحتسب لنا الأجر وأوف لنا الكيل وصدّق فإنّنا أمـواتُ
فضحك عبد الله لمّا قرأ الشّعر(ولو كان الصادق شورو أو الحبيب اللوز لكشّر وأمر بضرب رأسه) وقال : قولوا لأبي تمّام: لا تعاود مثل هذا الشّعر، فإنّ القرآن أجلّ من أن يستعار شيء من ألفاظه للشّعر’. والحقّ أنّ أبا تمّام استعار في هذه الأبيات الهزليّة، لا الألفاظ والقوافي فحسب، بل القصّة كلّها كما جاءت في الآيات التي تخيّرها من سورة يوسف. ومثال ذلك الآية الثّامنة والثّمانون ‘فلمّا دخلوا عليه قالوا يا أيّها العزيز مسّنا وأهلنا الضّرّ وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدّق علينا إنّ الله يجزي المتصدّقين’، والآية الثّامنة والسّبعون : ‘قالوا يا أيّها العزيز إنّ له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنّا نراك من المحسنين’. وإذا كان أبو تمّام احتفظ بالصّيغة القرآنيّة كما هي، في بعض هذه الأبيات، فإنّه يصرفها إلى جهة من جهات القول، غير متوقّعة، في أبيات أخرى؛ من ذلك العبارة القرآنيّة ‘بضاعة مزجاة’، فهو يصرّفها بحيث توائم غرضه في تقريظ شعره وأنّه نهاية في الجودة
***
‘سورة الستّات’
نقلا عن محمد كامل البنا : بيرم كما عرفته، ومحمد العتر : ألحان مصرية، ومجلة الجراد، القاهرة، يوليو 1994
قال بيرم التونسي رحمه الله وغفر له: يا أيّها المحافظ إذا أبصرتم النّساء يقصّرن ملابسهنّ، ويبدين صدورهنّ، فأصدروا لهنّ منشورا*. ألاّ يتخطّطن ويتحكّكن ويقوّرن الثّوب تقويرا*. إنّما الأحمر والأبيض والكحل والأقلام زينة من عمل الشّيطان، وليست شيئا مشكورا*. صنعة الله التي تعجب المتّقين من الرّجال، ولا يعجب الأحمرُ إلاّ رجلا غفيرا*. وقـل للمتزوّجات يسترن أفخاذهنّ، ويغطّين سمّانات أرجلهنّ، ولا يلبسن فستانا قصيرا*. ذلك بأنّهنّ تزوّجن، ومن تتزوّج فقد فازت فوزا كبيرا*. العانسات والأبكار يغسلن وجوههنّ، ويمشّطن شعورهنّ، ولا يضعن جبسا ولا جيرَا*ليعلم الذين يخطبون ذات البعل وغير ذات البعل وكفى بذلك تفسيرَا*. ما كان لرجل يتبع المرأة وهو مؤمن، إنّ الرّجل كان خنزيرَا*. يا نساء الشّعب إن يملك منكنّ الرّجال أغراضهم فلن تتزوّجن أبدا، ولو أعجبتهنّ كثيرَا*. الرّاقصون للرّاقصات، والصّرماحون للصّرماحات، والمعلّمون للمعلّمات. ولا تتزوّج شريفة خنزيرَا*. حرّمت على المؤمنات السّمكة والأساور من القشرة والحجل، وما جعل الله من أرجلهنّ جنزيرَا.
إذا أردنا ان تعلّق على نص الستات لبيرم التونسي لقلنا ببساطة كم هو مبتذل أمام جمال النص القرآني الذي أجمع النحاة والدارسون على انفراده بأسلوب يميزه عن نصوص البشر.
عصر كشف العورات