أصول سياسة الجدار الحديدي
أنطوان شلحتأصول سياسة الجدار الحديدي صدرت مؤخرا ترجمة عبرية منقحة ومزيدة عن الانكليزية لكتاب الجدار الحديدي ـ إسرائيل والعالم العربي لمؤلفه آفي شلايم، أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة أوكسفورد البريطانية (ہ). وفي الأصل صدر الكتاب بالانكليزية في سنة (2000) عن منشورات نورتون في نيويورك ولندن.لا شكّ، بادئ ذي بدء، أن عنوان الكتاب يشفّ عن محتواه. غير أن الفصل الأشدّ إثارة للاهتمام هو ذلك الذي يتحدث بصورة رئيسة عن أصول سياسة الجدار الحديدي في الممارسة الصهيونية، والتي أصبحت لاحقا سياسة رسمية لدولة إسرائيل حيال العرب عموما وحيال الشعب العربي الفلسطيني خصوصا، بعد نشوئها في 1948.والإشارات إلي تلك الأصول، التي يبثها شلايم، هي من الصفاء والصراحة والحدّة بما لا نحتاج معها إلي عناء القراءة التفكيكية.جذور فكرة تغييب السكان الأصليينمنذ البداية يتتبع شلايم جذور فكرة التجاهل أو التغييب أو الإقصاء للسكان الأصليين في التفكير الصهيوني، منذ أن هجس ثيودور هرتسل بمشروع دولة اليهود . ويؤكد في هذا الصدد ما سبق أن أشار إليه غيره من الباحثين وهو أن آباء الصهيونية، وبكل بساطة، لم يروا السكان الأصليين بصورة عامدة وعن وعي كامل، وذلك من منطلق الإدراك (الاستشرافي؟) لما سيترتب علي تنفيذ مشروع إنشاء الدولة المذكورة من جرائم بحقّ هؤلاء السكان، لعلّ أشدّها وأدهاها جريمة التطهير العرقي.وهذا ما تثبته، ضمن أشياء عديدة أخري، الواقعة التالية:بعد المؤتمر الصهيوني الأول، الذي عقد في سنة 1897 في بازل في سويسرا، قرر حاخام العاصمة النمساوية فيينا أن يستقصي أفكار هرتسل المبثوثة في كتابه دولة اليهود ، فأرسل مندوبين عنه إلي فلسطين في مهمة وصفت بأنها لـ تقصي الحقائق . وقد وجه هذان المندوبان برقية من فلسطين يقولان فيها: العروس (أي فلسطين) جميلة، لكنها متزوجة من رجل آخر .عن هذه البرقية يقول شلايم إنها تضمنت المشكلة التي ستتعارك معها الحركة الصهيونية منذ البدء. وهذه المشكلة هي، بطبيعة الحال السكان العرب الذين يعيشون علي الأرض التي أرادها اليهود .ويضيف: كان الرأي الناتج عن ذلك أن الحركة الصهيونية، باستثناء مجموعات صغيرة هامشية، فـــضلت أن تتــجاهل العرب الموجودين في فلسطين الذين شكلوا ما سُمِّي لاحقا بِـ: المسألة العربية .نستطيع القول، إذا، إن أصحاب مشروع إنشاء الدولة اليهودية الصهيونية في فلسطين كانوا مدركين تماما في لاوعيهم ـ إن لم يكن في وعيهم الكامل ـ أن مشروعهم هذا سيواجه، منذ البداية، معضلة السكان العرب. وبالتالي فإنهم أعدّوا نفسهم جيدا لهذه المواجهة، التي أصبحت نتائجها الآن معروفة…. وأصول فكرة التحالف الإستراتيجي مع قوة عظمي من ناحية ثانية يعود شلايم، أيضا، إلي أصول فكرة التحالف الإستراتيجي مع قوة عظمي خارجية. وهي الفكرة، التي تظهر قراءته لها أن هرتسل كان أول من أرساها وأن حاييم فايتسمان اقتفي أثر هرتسل في تطبيقها العملي بالنسبة لبريطانيا، التي كانت عظمي، مما أسفر عن صدور وعد بلفور المشؤوم في سنة 1917.في حقيقة الأمر قامت هذه الفكرة علي قاعدة تحديد الخدمات التي في مقدرة الدولة اليهودية أن تمنحها، عند قيامها، علي طبق من ذهب لتلك القوة العظمي، بما يتسق مع المصالح الخارجية، الاستعمارية، لهذه الأخيرة. وداخل كل ذلك يتوقف شلايم عند التحايلات والأحابيل التي التجأ إليها هرتسل في معرض إغواء القوي الخارجية لعقد تحالف دنس مع الحركة الصهيونية ذات الأهداف الكولونيالية. فيكتب في هذا الصدد ما يلي: عرض هرتسل في كل مناسبة من هذه اللقاءات (مع السلطان العثماني والبابا وملك إيطاليا والقيصر الألماني ومع جوزيف تشمبرلين، وزير المستعمرات البريطاني) مشروعه في طريقة أراد لها أن تجتذب المستمع: وعد السلطان برأس المال اليهودي، ألمح للقيصر بأن الأراضي اليهودية ستكون قاعدة أمامية لبرلين، عرض علي تشمبرلين إمكانية تحويل الأراضي اليهودية إلي مستعمرة الإمبراطورية البريطانية. ورغم تبدّل الحجج، التي عرضها هرتسل، فقد بقي هدفه الرئيسي متمثلا في الحصول علي دعم القوي العظمي لجعل فلسطين مركزا سياسيا للشعب اليهودي .من جميع ما تقدّم يتوصل شلايم إلي الاستنتاج الصحيح ومفاده أن الحركة الصهيونية، منذ بداية تشكلها تحت قيادة هرتسل، اتسمت بميزتين بارزتين أصبحت لهما أهمية أساسية ومستديمة في التاريخ اللاحق. هاتان الميزتان هما: عدم الاعتراف بكيان وطني فلسطيني، والبحث عن تحالف مع قوة عظمي خارج منطقة الشرق الأوسط. وقد كان الالتفاف علي الفلسطينيين هو نهج السياسة الصهيونية منذ المؤتمر الصهيوني الأول فصاعدا. وكان الافتراض غير المعلن لهرتسل وكل من تبعه هو أن الحركة الصهيونية سوف تحقق هدفها ليس من خلال التفاهم مع الفلسطينيين المحليين وإنما من خلال تحالف مع القوة العظمي المسيطرة في تلك الساحة. وقد أدي ضعف الييشوف ووضع المجتمع اليهودي في فلسطين قبل الاستقلال وتصاعد عداء الفلسطينيين إلي جعل الاعتماد علي قوة عظمي عنصرا مركزيا في الإستراتيجية الصهيونية. ولقد تغيرت القوة العظمي المسيطرة في الشرق الأوسط مرّات عدّة خلال القرن العشرين: في البداية كانت الإمبراطورية العثمانية، وبعد الحرب العالمية الأولي أصبحت بريطانيا العظمي، وبعد الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة تلك القوة العظمي. لكن ما بقي ثابتا هو ذلك التشبث الصهيوني بالاستحواذ علي دعم القوي العظمي في المعركة من أجل الحصول علي دولة وتثبيتها.وهذا الدعم ، كما سبق أن ذكرنا، لم يكن من غير ثمن دفعته الدولة اليهودية طوال سنوات وجودها. وقد عبّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق شامير (هل تذكرونه؟) ذات مرة بقوله: تري فينا الولايات المتحدة الأمريكية حليفا وذخرا إستراتيجيا!فشل مسار أوسلو بسبب إسرائيلتشمل الطبعة العبرية من الجدار الحديدي إضافة يتطرق فيها المؤلف، آفي شلايم، إلي مترتبات فترة إيهود باراك في رئاسة الحكومة الإسرائيلية (1999 ـ 2001). وكانت الطبعة الإنكليزية قد اعتبرت نتائج انتخابات 1999، التي أسفرت عن فوز باراك برئاسة الحكومة وإلحاقه هزيمة نكراء بخصمه الليكودي بنيامين نتنياهو، بمثابة زلزال بل وأكثر من ذلك اعتبرتها بمنزلة شروق الشمس بعد ثلاث سنوات قاتمة ومريعة أمسك فيها بزمام السلطة في إسرائيل الأنصار المتطرفون لنهج الجدار الحديدي، الذين لم يغيروا ولم يجددوا البتة في مفهومهم لهذا المبدأ ، علي حد تعبير المؤلف.لكن شلايم في هذه الفقرة الإضافية يؤكد خيبة أمله، مثل إسرائيليين كثيرين غيره، من باراك الذي تميزت ولايته ببعض الأنوار لكن أساسا تميزت بالكثير من الظلال السوداء .ويسلسل المؤلف أسباب إخفاق باراك في إنقاذ ما يعتبر أنها عملية السلام الإسرائيلية ـ الفلسطينية مما آلت إليه من تدهور علي النحو التالي:(ہ) أولا ـ أن باراك كان وبقي ذا نزعة أمنية في أصله وماهيته، بمعني أنه ينظر إلي العلاقات الخارجية من زاوية اعتباراته الأمنية. ويشير شلايم إلي أن باراك هو من ناحية مواقفه السياسية تهجين لحمامة وصقر.(ہ) ثانيا ـ أعطي باراك أفضلية واضحة لمسار المفاوضات مع سورية، علي رغم أنه أكد ضرورة التوصل إلي السلام مع جميع جيران إسرائيل. ويرجع الكاتب ذلك إلي عدة أسباب، لعل أهمها في رأيه هو حاجته إلي سورية من أجل الوفاء بالوعد الذي قطعه علي نفسه خلال حملته الانتخابية بسحب قوات الجيش الإسرائيلي من لبنان حتي تموز/ يوليو 2000. وقد كان واضحا أنه من غير موافقة دمشق لا تستطيع حكومة بيروت أن تعطي إسرائيل أية ضمانة بشأن الأمن في المنطقة الحدودية بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي ووكيله ـ مرتزقته، جيش جنوب لبنان .(ہ) ثالثا ـ في المسار الفلسطيني سار باراك ببطء وتردد واضحين. وقد تطلب الأمر فترة عشرة أشهر لكسر الجمود الذي كرسته حكومة الليكود نتيجة عدم تطبيقها لاتفاق واي ريفر.لكن شلايم يعتقد، إلي ذلك، أن مفاوضات كامب ديفيد 2000 رغم أنها لم تسفر عن تسوية نهائية، شكلت اختراقا ما. والدافع الرئيسي لاعتقاده هذا، وفق ما يؤكد، هو جهوزية باراك لاجتياز خطوطه الحمراء والتباحث بصورة جدية حول جميع القضايا الواقفة في صلب النزاع، وهي حقوق اللاجئين الفلسطينيين وإخلاء المستوطنات في قطاع غزة والضفة الغربية وتقاسم السيادة علي القدس.وتنتهي إضافة الطبعة العبرية عند قراءة فترة حكومة أرييل شارون الأولي (2001 ـ 2003) وعند نتائج انتخابات 2003، التي أعادت شارون إلي كرسي رئاسة الوزراء مع حكومة أكثر يمينية في سنتها الأولي .وفي الإجمال العام يري شلايم أن عقد السنوات الممتد بين 1993 ـ 2003 كان حافلا بالأحداث المتعلقة بتاريخ العلاقات الإسرائيلية ـ الفلسطينية. فخلال هذا العقد ولدت وسقطت عملية السلام المنطلقة من اتفاق أوسلو. ويصف منتقدو أوسلو هذا الاتفاق بأنه معتلّ ومحكوم بالفشل المسبق. لكن رغم عيوبه ونواقصه فقد كان هذا الاتفاق، في قراءة المؤلف، خطوة شديدة الأهمية في الاتجاه الصحيح. وهو لم يكن محكوما بالفشل المسبق، بل فشل لأن إسرائيل، بقيادة الليكود، لم تفِ بقسطها في الصفقة. وثمة أسباب إضافية كثيرة لفشل عملية أوسلو، تشكل عودة الفلسطينيين إلي العنف واحدا منها. لكن السبب الرئيسي والأول لهذا الفشل يكمن في سياسة إسرائيل التي نحت منحي الاستمرار في إقامة المستوطنات في الضفة الغربية. ويختم شلايم بالقول إن مصادرة المزيد والمزيد من أراضي العرب لصالح المستوطنين اليهود لا تتماشي مع الشراكة الجدية مع الفلسطينيين في سبيل إحلال السلام. وعلي هذا الأساس فإن إسرائيل لا تزال واقفة أمام المعضلة التي تراوح أمامها منذ 1967 : في مقدورها أن تعيش مع مناطق محتلة، في مقدورها أن تعيش بسلام، إنما ليس في مقدورها أن تعيش مع الأمرين معا. التاريخ الجديد هذا الحد ينبغي أن نشير إلي أن الجدار الحديدي هو الكتاب الثالث لآفي شلايم. وقد سبقه كتابان هما: المؤامرة عبر الأردن (1988) و الحرب والسلام في الشرق الأوسط (1995). وصدرت كتبه كافة باللغة الانجليزية وعن دور نشر أجنبية، قبل أن يصدر الجدار الحديدي باللغة العبرية.ومثل كتب شلايم ثمة كتب عديدة لمؤرخين وعلماء اجتماع وباحثين إسرائيليين لا تزال، حتي هذه اللحظة، تمارس حقّها في البحث والسجالية، من خلال مواجهة الماضي الأشد ظلامية للحركة الصهيونية ولحكام إسرائيل، بلغات أجنبية فقط.ودافعي للتنويه بهذا الأمر، الذي قد يتراءي للبعض عديم الأهمية، أنه يمثل علي أحد جوانب الحرب المباشرة، من طرف المؤسسة الإسرائيلية والصهيونية، ضد الاجتهادات غير المفطورة علي الإجماع القومي الصهيوني حول رواية تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وهو جانب عدم الالتفات إلي وجود هذه الاجتهادات سعيا نحو غاية القتل بالإهمال !وقد رأي كتاب شلايم الأول المؤامرة عبر الأردن النور في موازاة صدور كتب أخري لمؤرخين إسرائيليين آخرين مثل بيني موريس وإيلان بابه وعلماء اجتماع مثل جرشون شفير. وقد اعتبرت كتب هؤلاء الأربعة بمثابة القطاف الأول لموجة التاريخ الإسرائيلي الجديد ، التي يقف وراءها تيار المؤرخين الجدد و علماء الاجتماع الانتقاديين .ورأي البعض أن يرجع هذا التاريخ الجديد إلي عاملين رئيسيين:ہ الأول ـ ظهور رعيل جديد من المؤرخين الإسرائيليين لديه الجهوزية الكافية للتسليم بقسم كبير من الانتقادات الأخلاقية والسياسية التي وجهت إلي الصهيونية وإسرائيل في أعقاب 1967 (إثر احتلالها وممارسات عسكرها في المناطق الفلسطينية)، ما أدي بهذا الرعيل إلي أن يخضع للفحص الفترة التي سبقت سنة 1967 أيضا.ہ الثاني ـ إماطة اللثام عن وثائق من فترة 1948 كانت حتي ذلك التاريخ، النصف الثاني من الثمانينيات، في طيّ السرية التامة.غير أن الخصيصة الأهم التي تميز شلايم، كما تميّز بابه وشفير وغيرهما من المؤرخين الجدد و علماء الاجتماع الانتقاديين ، تتمثل في العودة إلي فحص أصول النزاع الصهيوني ـ الفلسطيني وجذوره. زد علي ذلك أن المراجع الأرشيفية، التي يستعين بها هؤلاء في كتاباتهم، لم تكن جميعها من بين تلك التي أميط عنها اللثام في الفترة المذكورة. وإنما كانت، قبلا، مفتوحة أمام مرمي بصر المؤرخين والباحثين.وربما من المفيد أن نستعيد هنا ما قاله جرشون شفير في هذا الشأن عندما اعترف بأنه رغم كون المراجع المذكورة في متناول اليد، فإنها تطلبت منه قراءة جديدة للمواد القديمة في سيرورة يراد لها أن تعــيد إلي هذه المراجع ما سبق أن غاب ـ أو جري تغييبه عمدا ـ عن أعين القراء الذين عاينوها قبلهم.ہ كاتب من فلسطين(ہہ) آفي شلايم: الجدار الحديدي:إسرائيل والعالم العربي ، إصدار: دار النشر يديعوت أحرونوت ، تل أبيب 20058