هاهي عواصف الثلج تضرب الممالك الصحراوية العربية مثل الاردن والسعودية، وتهبط بصواعقها على شواطىء لبنان وجباله، وتضيف الى الصراع المسلح في سوريا، صراعا اكثر فتكا ورعبا مع قوى الطبيعة، وتحيل بعض المناطق الصحراوية في سيناء وصعيد مصر، الى سبيريا جديدة من الثلوج، وتحقق في مصر انقلابا طقسيا لم يحدث له مثيل منذ اكثر من قرن من الزمان، وبعد ان كان اهلنا في هذه البلاد يصلون صلاة الاستسقاء، التي تدفع عنهم الجفاف والجدب وتنهي سنوات القحط والقيظ، وترزقهم ببعض الشآبيب، صاروا الان يصلون صلاة عكسية، هي صلاة اتقاء شرور السيول والامطار وعواصف الثلج والجليد، وهزيم الرعد وكوارث النار التي تصنعها ضربات البرق.
وباعتباري مواطنا من ليبيا، فقد عشت اغلب سنوات عمري في طقس يتساوى طوال الفصول الاربعة، واذا حدث تغيير فهو تغيير طفيف، لا يخرج عن تلك الجملة التي قرأنا في المرحلة الابتدائية عن كونه طقسا حارا جافا صيفا، معتدلا ممطرا شتاء، مع كثير من الشك في كلمة ممطر، لانها امطار شحيحة قليلة نادرة، ولم اكن شخصيا اعرف شيئا اسمه درجة الحرارة، وحتى بعد ان بلغت سن الرشد وانتقلت من فصول الدراسة الى مجال العمل الصحافي كنت جاهلا بمثل بكل ما يمت الى الطقس والجو من مفردات ومصطلحات، وارتبكت ذات مرة وانا اتلقى سؤالا عن طريق الهاتف من صديقة اجنبية، في لندن، تريد ان تعرف درجات الحرارة في طرابلس، التي كانت ستأتي لزيارتها بعد يومين، ولم تقتنع بانني لا اعرف درجات الحرارة، عندما اعترفت لها بذلك، فلم تصدق كلامي والحت في السؤال حتى وجدت نفسي محرجا ارتجل درجة من اختراعي واقول لها، ربما تكون خمس درجات، لانني لم اكن اعرف الفرق بين الخمس والخمسين درجة، وكان الوقت ربيعا ساخنا، فجاءت ترتدي معطفها وتلف شالا حول عنقها وسترة تحت المعطف وكنزة تحت السترة، وفوجئت عندما وصلت ان درجة الحرارة فوق الثلاثين وكان منظرا فكاهيا عبثيا وهي تقوم بعملية ستربتيز تحت سلم الطائرة وقد لفحتها رياح القبلي المرعبة، القادمة من بوابات الجحيم في الحمادة الحمراء، وكنت في شرفة المطار انتظرها، واكتشفت حجم الجريمة التي ارتكبتها، فخجلت من ان اظهر لها وجهي، وقفلت راجعا وهاربا من امامها. ولم اعرف الا عندما جئت للاقامة في لندن ان للطقس كل هذه الطقوس، وله كل هذه الاهمية في حياة اهل البلاد، فلا اجد على ألسنة الناس الذين التقي بهم جميعا، الا حديثا عن الطقس، نساء ورجالا، كبارا وصغارا، فهو يوم مشمس يستحق الاستمتاع به في الحديقة، او يوم بارد يستحق الاستمتاع به قرب المدفأة، او تحت شراشف السرير، ثم يمتد خيط الحديث الذي يدور حول الطقس واقانيمه وتحولاته، وعرفت ان الناس لا يتحركون الا بتوجيهات هيئة الارصاد الجوية، فأي مشوار داخل المدينة او خارجها، او سفر او نزهة، او زيارة لقريب او حبيب، مرهون بما تقوله النشرات الصادرة عن هيئة الارصاد، حتى ملابس الخروج لا يقفون امام دولاب الملابس الا بعد النظر في نشرات الاخبار الجوية، واخضعت حياتي مثلهم لاحكام هذه النشرات التي لم اتحرر من سيطرتها الا عند العودة الى بلادي.
ورحم الله استاذ الجغرافيا في المدرسة الابتدائية الذي كان يملك نظرية يفسر بها حركة التاريخ المناوئة للعالم العربي ويرد بها على السؤال الخالد وهو لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب، واضعا اللوم كله على الطقس، فهذا الطقس البارد لديهم هو الذي يحرك الناس للعمل والانجاز وصنع الحضارة والتقدم، لان هذا الانسان مرغم على العمل كي لا يتجمد الدم في عروقه، بينما شمسنا الحارة وطقسنا الدائم السخونة لا يدفعان الا للكسل والخمول وطلب النوم في ظلال الجدران، وعندما نعترض قائلين بانه سبق ان كانت للعرب حضارة وامجاد، يرد بحنق قائلا انها امجاد صنعوها عندما عبروا البحر الى الشمال وحصل ذلك الاتصال بطقس الغرب البارد في الاندلس وصقلية وسردينيا وكورسيكا، ولعل هذا النظام الطقسي الجديد الذي جلب موجة الطقس خير وبركة وبداية عهد جديد يعيد للعرب امجادهم التي صنعوها بالعبور الى برد الشمال، ويحدث هذه المرة ان يأتي برد الشمال عابرا البحار والمحيطات اليهم، فيدفعهم الى التخلي عن تقاليد الكسل والنوم تحت ظلال الجدران، ويدفعهم هم ايضا للنشاط والعمل والحركة لصناعة تقدمهم ونهضتهم مثل عالم الغرب، واذا كنا قد سمعنا بتلك الموجات المرعبة التي تداهم قارتي امريكا واوروبا باسم انجيلا وباولا ومونيكا، فسنبدأ منذ الان نسمع بموجات تداهم صحراءنا ونعطيها باذن الله اسماء عربية مثل لبنى وليلى وسلوى وهند ودعد وعليا وخديجة، بأمل الا تغضب نساء العالم العربي ويعتبرنه اعتداء على انوثتهن وجمالهن ودلالهن ويتحولن من الجنس اللطيف والنصف الحلو، الى الجنس الصاعق والنصف المهلك المرعب، ووقانا الله غضب النساء وغضب الطبيعة على السواء.
كاتب ليبي