كلما قرأت التعليقات حول التطورات التي تعصف بنا في لبنان يأخذك الدوار. فالأنباء مخيفة كما يتبادر إلى ذهنكم. لكن والحق يقال إن ما يقلق اللبنانيون لا يختلف في شيء عما يعيشه العراقيون مثلا منذ سنوات. ولا يختلف عما صار خبزا يومياً للكثير من السوريين. غير أن ما يلفت في لبنان أن التعبير عن القلق هذا يتخذ نكهة خاصة ولا سيما لدى بعض المعلقين والمتابعين والمثقفين هناك. فبالرغم من إشتراك اللبنانيين مع اشقائهم في تقاسم الكأس المرّة ذاتها، سواء من حيث الأسباب أو النتائج، تتفاجأ بكم التعليقات والتحليلات التي تركز على رؤية ترى أن الكارثة كما لو كانت لبنانية صرفة.
لكن ومن بعد أن تغوص في بحر أفكار هؤلاء المتابعين يتضح لك أن أسباب هذا التركيز الحصري على لبنان ليس عارضاً بل هو في متن فكر الحيادية اللبنانية. أصحابه يروجون لفكرة تتمثل بقدرة اللبنانيين، إذا ما أرادوا، على التفلت من مشاكل المنطقة وعلى النأي بنفسهم عن صراعاتها وحروبها ومحاورها. وهم بالإضافة إلى ذلك يظنون بأن لبنان فٌصّل أصلاً على مقاس هذه الحيادية وكان مقدراً له ان يحافظ عليها لولا بعض الصدف التاريخية كمجيئ المقاتلين الفلسطينيين إلى جنوب لبنان بعد تعرضهم لحملة عسكرية كبيرة من قبل النظام الأردني.
كما يعيد بعض اتباع هذا الرأي أسباب انهيار حيادية لبنان إلى وهم تشبث بعض العقول اللبنانية بربط لبنان بالقضية الفلسطينية والنزاع العربي-الإسرائيلي.
من المتفق عليه اليوم بداية أن المسألة الوطنية كانت ولا تزال محور الصراع الذي ينقسم اللبنانيون حوله منذ ولادة هذا اللبنان. فهي خط الفصل لمختلف القوى السياسية وأساس جميع تفصيلات الخلافات الأخرى. وعلينا الإعتراف أيضاً بوجود ‘تيار’ قوي في لبنان يقول، منذ خلق الكيان اللبناني، بحيادية لبنان عن محيطه. صحيح أن هذا التيار اقتصر في البدء على الطوائف المسيحية اللبنانية التي اعتبرت، عن حق، الكيان اللبناني مفصّلاً على قياسها. لكنه توسع، بعد اتفاق الطائف، لكي يضم سنّة لبنان بقيادة رفيق الحريري إلى صفوفه.
غير أن التعمق قليلاً في ثنايا المشكلة وتاريخيتها يكشف لنا عن حيادية مشكوك في أساساتها ومنحازة إذا جاز القول. فالتيار الحيادي انطلق من نقطة ما بعد خلق الكيان اللبناني بحيث اعتبر عملية الخلق هذه خارج الجدال. وبناء على هذه الفرضية اعتبر أن للبنان الحق في أن يكون سيداً وبعيداً عما يمكن أن يجري في ‘الخارج’ ، أي في محيطه. والخطيئة الأصلية هنا تتمثل في هذه النقطة بالذات. فاللبنانيون الذين لم يقبلوا في الأصل ب’سلخ’ الكيان عن محيطه الطبيعي لم يقتنعوا تماماً بمشروعية الخلق وشرعيته واعتبروه عملية خلق عنيفة وقيصرية جاءت على يد قابلة استعمارية مشكوك بنزاهة أغراضها ومراميها.
ما نعرفه أن لبنان نشأ أصلا على قاعدة إتفاقيات سايس- بيكو التي قضت بتقسيم المنطقة إلى دول وكيانات جديدة قرر حدودها وتركيبها الفرنسي والبريطاني سيّدا ذلك الزمن. فإذا كان يمكن اعتبار هذا الخلق الإستعماري نشوءاً طبيعياً لدولة حيادية فإن النأي بالنفس عن المحيط يصبح تحصيل حاصلٍ. أما إذا كان الكيان قد بني بالأصل على قاعدة مصالح المستعمر ومن أجله فالإنحياز صفة لازمة لولادته وأصيلة في فلسفته وفي قيامه وكينونته. ولا يمكن الدفاع عن حياده بصفته معطى لا يناقش. فما بني في أصله على انحياز لمصالح المستعمر وبالضد من مصالح شعوب المنطقة ومصالحها لا يمكن أن يكتسب مع العمر صفات الحيادية البريئة. فما بني على انحياز سيبقى مهما طال الوقت انحيازاً. أما الفلسفة التي أرادت لبنان كياناً يقوم على قاعدة الإستفادة من العرب إقتصاديا وماليا، والنأي بالنفس عن قضاياهم المصيرية، فهي فلسفة ظاهرها الحياد وباطنها الإنحياز الإنتهازي.
وبسبب من هذا الإنحياز التأسيسي والوجودي للغرب، لا يمكن لأي طرف داخلي لبناني أن يدّعي الحيادية في كل مرة يواجه مشروعاً يرتبط بالداخل العربي. ففي كل مرة يرفع طرف لبناني شعار حيادية لبنان يكون بالواقع كمن يدافع عن الإنحياز الأصلي. في هذا الإطار لا نعود نستغرب مثلاً مواقف الرئيس كميل شمعون يوم وقف في وجه المشروع الناصري لتوحيد العرب وبناء دولة صاعدة ومنتجة. شمعون آثر الإبقاء على ‘حيادية’ لبنان، أي على التحالف مع الغرب ومع القوى المحافظة العربية الحليفة له.
فالإبتعاد عن الإنخراط في المواجهة الدائرة بين العرب كجسم كامل وبين الغرب الإستعماري بشقيه الإستيطاني والإقتصادي، وبالتسلسل التاريخي، لم يكن يوماً حياداً فعليّاً، بل انحيازاً مضمراً وعلنياً لطرف ضد طرف. فما بالك إذا كان هذا الحيادي منخرط بأحلافٍ غربية ويقف إلى جانبها في مشاريعها في المنطقة.
الأدهى من الحيادية اعتبار لبنان جزيرة معزولة يمكن النأي بها عما يجري حولها، مع العلم أن تاريخه الحديث لا يشفّ إلا عن صراعات وحروب أهلية ناشبة حول قضايا المنطقة بالتحديد، منذ حروب الجبل في القرن التاسع عشر إلى تاريخ اليوم مروراً بحرب ‘المشاركة’ و’ثورة 58′.
لم يستطع لبنان بالحقيقة أن ينعم ببعض الأمن والسلام إلا بالضبط عندما انخرط بالمنطقة في أيام سلمها أو في أيام التفاهمات العربية-العربية أو العربية-الدولية. أما محاولات الحيادية في زمن احتدام الصراعات في المنطقة فلا تعدو كونها أضغاث أحلام لا أكثر.
طبعاً لن ندخل في تهافت الحيادية على المستوى العملي في كل صراع محوري يدور في المنطقة. فهو لا يحتاج إلى دليل. الكل ينغمس في الصراعات، سلمية كانت أم عنيفة، مع الإحتفاظ بحق التبريرالذي لا يبرر شيئا بالحقيقة. أما الإصطفاف في المحاور الإقليمية والدولية فلا يجد له قناعاً أو تبريراً غير الحيادية.
مقال جدا رائع. الشكر للكاتبة حقا.