كان حليمو صاحب المطعم المفخخ في ‘توجار’، الآن متأكدا، أشد التأكد أن جريرته في حق أحمد داريت الأصلي، حين أرشده إلى طريق السفر، تستحق موقعا مميزا في سلسلة جرائر الريف، وأن بوابات الطوارئ وأسوار السجن المركزي وإشارات المرور الحمراء التي وضعها كرسومات احتياطية في خط سير المسافر، قد ترتدي سحنة أساسية ويبدأ بها زحف الصعلكة في العاصمة.
استخرج زكاة للفطر كان قد نسي استخراجها في عدة أعياد متعاقبة، تأكد من لياقة قميصه، ونظافة نعليه، وضع قليلا من ماء الكولونيا على رقبته، وكثيرا من بخار النشادر على أنفه، وذهب إلي بيت آل داريت. كانت كلاب الريف ما زالت طليقة النباح، عصافير الجنة الهزيلة ما زالت تحلم بغد مشرق، ومزارعو الدلتا، ما زالوا يعاندون النعاس. استقبلته التباشير المريبة لفقدان عضو في البيت، نفس التباشير التي تخيلها مرارا في بيت أسرته في حي ‘الوابورات’ في العاصمة حين انقاد متهورا بعاطفة متأججة، إلى هذه البلدة، كانت أوعية الدموع أكثر من أوعية البن والشاي، وكانت أسرة داريت مكومة حول رامية للودع تبدو في وجهها علامات سهر متعمد، تقرأ طريق المسافر تماما كما ورد في رسومات حليمو عشرات المرات من دون أن ينهها أحد، وكانت نقود النحاس التي يسحقها الصدأ تتقافز حول قراءتها بلا انقطاع. كان المسافر قد سافر بالفعل، سحبته عربة متعجلة دسها الليل في أحشائه، وكان خط السير المعوج قد بدأ.
توغل حليمو في زيارته إلى أبعد مدى، شارك في قراءة خط السير، وبعثرة النقود النحاسية، وألقى بعدد من التمنيات الطيبة في ذعر العائلة، انتظر حتى تأكد من جفاف كل ينبوع للدمع، وعاد إلى ثلاثة عشر ليل مؤرق مشؤوم بلا ذرة من نعاس. كان يستبدل حجارة الراديو مرتين في اليوم، يستمع إلى نشرات الوفيات، وأوصاف خرج ولم يعد، يتمنى لو طلب المسافر أغنية، أو شارك في بث مباشر، أو حتى شتم معدي برامج الجماهير التي كانت بلا جدوى .. كانت مثانته تتلوى بعنف و رأسه يلتهب حرا كلما توقفت عربة في الجوار. أقلع عن كثير من عادات مؤاخاة الزبائن في مطعمه، والضحك لنكاتهم، وصار طهوه رسميا خاليا من أي نكهة أخوية. كلم أفرادا في الجيش والشرطة كان يعرفهم فيما مضى، وراسل أصدقاء قدامى ومسعفين، وجرسونات في مطاعم في العاصمة. جاملهم بالتحية والسلام وكلمهم عن ريفي من توجار له وجه طفل وقامة نخلة، وفوران أخدود ربما يلتقيهم جائعا أو شحاذا أو سجينا، أو ضائعا، أو مبقور البطن، سد أذنيه كثيرا بفلين الأجهزة الكهربائية حتى لا يسمع جريرته تتكرر على لسان زوجته المدرسة كحصة تربوية، بحث عن كتب في تحليل الشخصية عند مثقفين توهتهم الحياة في الريف، وانقاد إلى نظرية عظيمة، كانت تحلل شخصا كأحمد داريت تحليلا أراح أمعاءه من كثرة الانتفاخ.. كانت تقول إن أشخاصا كهولاء لا يمكن أن يساهموا في أي نفع لأحد، لن يساهموا في ترقية لعسكري مغمور، ولا تدريب لطبيب حديث التخرج، ولا ظهرا لأي سياط تبحث عن ظهر، استرخى صاحب المطعم المفخخ لتلك النظرية الخالدة، ادعى تأليفها، سردها أمام زوجته بتأن حتى أسكت حصصها التربوية، ونام في اليوم الرابع عشر نوما استفزازيا مطرزا بالشخير، لدرجة أن زبائنه المواظبين على المطعم تغدوا في ذلك اليوم بكسرة الماء.
‘ روائي سوداني