اذا كانت الثورة قد جرى تحريفها إلى حرب أهلية، وهذه انتهت بدورها إلى حرب مواقع بين المتقاتلين، سواء كانوا مع النظام أو كانوا ضده، وإذا كانت الدبلوماسية تحولت إلى أساليب بهولانية في إدارة الصراع، فماذا يتبقى إذن من حلول حقيقية لمسلسل المقتلات الجماعية وفظائعها غير المسبوقة؛ فما يشهده الشعب السوري المفجوع ومعه كل المراقبين المتابعين لتطورات تلك المقتلة المتمادية، هو تكرار النتائج العبثية عينها لكلٍ من منهجيْ الحرب والدبلوماسية؛ حرب السنوات الثلاث المنقضية لم تمنح أياً من فريقيْ النزاع جائزة النصر، كما لم تلحق بأي منهما هزيمة حاسمة، كل ما فعلته الحرب هو إعادة إنتاج قوتها على الاستمرار كأنها أصبحت هي ‘الفريق الثالث’ الأقوى من فريقي الصراع معاً. حربهما ضد بعضهما. لم تعد قراراً إرادياً لأي منهما. بل أمسى مسلسل المقتلات، كأنه، محكوم بأسبابه ونتائجه النابعة عن وقائعه عينها. فهل انضمت نماذجها إلى فصيلة تلك الحروب/الكوارث الجماعية المصنفة تحت خانة الفواجع الإنسانية المستعصية الحلول، حتى على مرتكبيها وصُنّاعها هؤلاء. لم يعودوا أسياداً حكاماً على أقدارها، بل أشبه بضحاياها، دون تمييز بين من هو الظالم المعتدي، ومن هو المظلوم المعتدَى عليه.
هكذا يتعلّل معظم ساسة الأفرقاء المتنازعين، يدّعون جميعاً أنهم ساعون إلى وقف الحرب، لكنهم سريعاً ما يقرون أنهم لا يملكون المفاتيح المطلوبة لأبواب المشكلات القائمة، لكنهم وإنْ لم يكفوا عن المحاولات، الدبلوماسية وحدها في العلن. وأما في السر، وتحت أجنحة الظلام نسبياً، فالهرولات المقنّعة نحو بؤر الفتن هي على أشُدّها، محملّةً بأدوات الحديد والنار من كل صنفٍ فتّاك، من البشر، ومن ‘المؤامرات’ كذلك؛ فمن طبيعة الحروب الأهلية أنها خارجة أصلاً عن القوانين المحلية والدولية، وأنها مرشحة لارتكاب الفظائع المتبادلة، إذ يفقد القتل العادي جدواه؛ فلا بد من تصعيده إلى مستوى المجازر الجماعية، ولا بد للسجون أن تتحول إلى مسالخ بشرية. فإن أخطر ما في هذا النوع من الوحشية المنظمة بفعل قوانينها الخاصة المشرعة أساساً للعنف اللامحدود، أسوأ ما فيها هو أنها ليست حرباً بين جيوش بل بين شعوبيات، لا تفصل بين المقاتل المسلح والمدني العادي. فالكل في المعسكر الواحد هم ضد الكل في المعسكر المقابل. ومع ذلك فالمدنيون هم الضحايا الأكثر عدداً والأشد معاناة لتكاليف الفوضى الدموية المنتصرة على أجسادهم وعائلاتهم وأرزاقهم وأملاكهم.
كأنما كُتب على ثورات الربيع العربي أن تتهاوى إلى حروب أهلية. ذلك هو مصيرها المحتوم المشؤوم بديلاً عن أحلامها الذهبية في إبداع المدنيات الفاضلة العادلة، فإذا لم تعد أنظمة الاستبداد قادرة على قمع انتفاضات شعوبها ضدها، فليكن عقاب كل ثورة هو انقلابها إلى مقتلة أهلوية. هذه المسافة الزمنية والاجتماعية ما بين تهاوي نظام مستبد، وانتهاض مجتمع الحريات النظامية، هذه المسافة المخيفة، الفالتة من عُقال أية سلطة للدولة أو للمجتمع، ستكون مفتوحة الأبواب على كل تدخل أو تآمر خارجي، كما ستكون داخلياً، ملاعبَ حرة لكل فتنة فئوية. فتتحول مساحات الوطن إلى حقول ألغام مفجرة لأصنافٍ من عقد التخلف المتجذرة. ذروة المرحلة الانتقالية منذورة مقدماً لانطلاق عقد التخلف هذه، لا تطلق الحريات إلا مقترنة بأضدادها معها. الأحرار وأعداؤهم ملتزمون جميعاً بخوض مباراة الوجود أو اللاوجود. المفروض عليهم بالتساوي والتضاد في وقت واحد.
منذ أن باءت النهضة الاستقلالية بهزيمة مزدوجة في تاريخها وفي جغرافيتها المعاصرتين، عندما تخلت دولُها الرئيسية عن مصارعة اسرائيل، وقبلها كانت تخلّت عن وحدة جغرافيتها السياسية والبنيوية ما بعد فشل تجربتها الأولى الرائدة في ديمومة ‘الجمهورية العربية المتحدة’. عندما لم يعد العرب يحاربون من أجل استعادة فلسطين. أو من أجل استعادة الجمهورية العربية المتحدة، فقد جرى تدريجياً تحويل محركات الصراع نحو الداخل العربي. بات للصراع محوره العمودي ما بين القمة المحكومة من مركب الاستبداد/الفساد، وبين المجتمع، كخزان لنوازع الكبت الوجودي في مختلف أنواعه ودرجاته، أصبح لكل قطر (مستقل) خزانُه الخاص المختنق بحشرجات الغضب المقموع. كان ذلك هو عهد انتظار للآتي المفاجئ. وإذْ تتابع قطارُ الثورات أخيراً، صار لا بدّ من منعه من الوصول إلى محطاته، صار الرهان القدري أن تخترق البراكين المتفجرة سدَودها الصخرية بدون إذن من أحد، من الطبيعة أو من الإنسان شرط أن يكون مصيرها هو أن تختنق بجحيمها هي ومجتمعاتها معها .
ولقد نجح هذا الرهان الخبيث في أكثر من ثورة ربيعية. كانت سوريا هي ضحيته المثلى؛ ربما حقق هذا الرهان معظم الأهداف اللئيمة المنتظرة منه.وفي منعطف ما يسمى بمؤتمرات (جنيف) حول أباطيل مفاوضات سلام عاقر سلفاً من أي مشروع في استعادة البلاد المنكوبة لحد أدنى من أمنها الاجتماعي. فالحلول التي طالما اقترحها أصحاب هذه المؤتمرات، ما قبلها، وعبر كل المراحل الدموية التي اجتازتها ما صارت توصف به (الأزمة) السورية وليس ثورتها، كان الحياد الدولي هو ذروة التدخل المسموم بكل أصناف الفتن المعهودة والمتوارثة من عصر الاستعمار الاحتلالي المباشر. كان القصد هو إعادة الاحتلال. ومن قِبل عدو غامض مبتكر. أفضل نماذجه ألا يكون جيشاً دولياً. فلقد تقرر أن يكون القتل وحده عنواناً دائماً وثابتاً لكل فصول الحدث الثوري الواقعة والآتية. أن يحل القتل شرطاً حاكماً لمختلف مبادئ أفرقاء الثوار وأعدائهم معاً. كان الإجراء المطلوب تعميمه في شتى الجبهات هو أن يلتبس شخص الثائر بشخص القاتل.
الاستعمار بارح كونه احتلالاً أجنبياً. صارت خصائصه التاريخية المعروفة عن مظالمه. مجرد موادَّ خامْ أولية صالحة للاشتقاق منها، والبناء عليها لعدّة الاستعمار العصري الموصوف بالأهلوي والمحلي. غير أن هذه العدّة لن تشبه نفسها، سوف تتطور أدواتها المستجدة نحو الأشكال والدرجات القصوى في التحرر من كافة المسؤوليات، سواء منها الأخلاقية أو القانونية. سيكون البطش بالآخر سيّد الإجراءات والأحكام في وقت واحد.
الاستعمار الأهلوي تجاوزت ممارساته العينية كلَّ الأحابيل غير المرئية التي تُعزى إلى ثقافة ‘المؤامرة’، لم تعد حروبنا الداخلية محتاجة إلى الأيدي الخفية، تمتد إلى معونتها من ما وراء البحار. لم تدخل مجتمعاتنا بعد عصر الصناعات الخفيفة أو الثقيلة. إن بعضها ما يزال منشغلاً بنوع تلك الصناعة البشرية الأقدم والأبقى ،عنوانها: كيف يقتل الواحد منها الآخر، لكي لا يبقى هو نفسه فيما بعد. فالخاصة المحورية لهذا الاستعمار الأهلوي.العصري جداً،لا تصنعه جيوش جرارة غازية من ما وراء الحدود. إنه صناعة محلية خالصة بامتياز، يُنتجها المستعمَرون أنفسهم. أما المستعمرون القدامى، والمتواجدون دائماً رغم اختلاف العصور، فقد وصلوا أخيراً إلى زمن الحياد. عمدوا إلى التنصّل من مسؤولياتهم الإنسانية أو الكونية. فضّوا صفقاتهم السرية والعلنية، مع شركائهم التقليديين والمحدثين، ما وراء المحيطات. هكذا يريدون عكس صورهم في مرايا ضمائر شعوبهم، فقد تركوا مستنقعات ما وراء محيطاتهم، تطغى وُحولها السوداء الموبوءة بديداتها المزمنة، على أية ينابيع قد تنفجر بمياهها النقية العذبة. تلك هي حرب الطبيعة الأقوى من كل حروب أبنائها البشر المساكين والمعذبين بأخطائهم عينها قبل أن تكون من أفعال شياطينهم.
أحكام الطبيعة قد تكون هي الأصل والأقدم على الأرض ما قبل أحكام التاريخ ومصائره الطارئة على سطح المعمورة. لكن التاريخ هو المؤهل وحده لكي يصنع كل حاضر للشعوب الحية، تحت طائلة المستقبل الذي سيكون من نصيب أحرارها وحدهم..
‘ مفكر عربي مقيم في باريس
محظوظ ، حقيقة ، من يحقق اشباعه بدقّة تشخيصك – الحكيم – للواقع الحارق….
أطال الله في أنفاسك ، أستاذ مطاع ؛ لتبقى غزارة قلمك هي مفخرة هذه الصحيفة ، وقيمتها الأصلية.. والمضافة .