مثلما يخضع التاريخ للتحقيب ولو على نحو اجرائي، فإن العقود والقرون ايضا يجري تصنيفها من المؤرخين تبعا لأبرز ما وقع فيها من احداث.
وعلى سبيل المثال يوصف القرن التاسع عشر بأنه قرن الايديولوجيا لأنه شهد ميلاد بيانات ونظريات ذات مرجعيات ايديولوجية، ومنها البيان الشيوعي لماركس، اما القرن العشرون فهو المجال الحيوي لصراع الايديولوجيات، فقد شهد حربين كونيتين، واطلق عليه بعض مؤرخيه اسم القرن الغاشم، مثلما رآه آخرون اقصر القرون، لأنه بدأ مع الحرب العالمية الاولى وانتهى مع الحرب الباردة، لهذا فهو قرن ناقص لا يتجاوز السبعة عقود، فقد قضم منه القرن التاسع عشر مثلما استدان منه القرن الجديد .
وبهذا المقياس قد يكون القرن السابع الهجري في تاريخنا العربي الاسلامي أعجف القرون لأنه شهد في أواسطه سقوط الدولة العباسية وغزو المغول، وما تبع ذلك من انهيار وتفكك، وقد فرض عليّ هذه التداعيات كتابان اعيد طبعهما والاهتمام بهما بعد قرن من صدورهما، لأسباب متعلقة بالمناخات الثقافية والسياسية التي تسود الآن، وما يشهده العالم من حراكات على اختلاف الدوافع والغايات .
الكتاب الاول لغوستاف لوبون بعنوان ‘سايكولوجيا الجماهير’، وقد صدر قبل قرن ومن الصعب ان نحزر الان مدى ما احدثه من سجالات لأن الرصد في تلك الايام لم يكن كما هو الآن سواء من حيث وسائل الاتصال والتواصل او ازدهار صناعة نشر الكتاب .
واول ما يخطر ببال القارىء المعاصر عندما يرى عنوانا له صلة بالجماهير ومكونات مزاجها هو دور المثقف والسياسي معا في المساهمة المزدوجة لهذا التكوين، فهما يشاركان في صياغته على نحو ما … ثم يسارعان الى استثماره، فالاستجابة الجماهيرية قد لا تبدأ على درجة من التجانس لكنها بتكرار المؤثرات ذاتها تصبح ذات ايقاعات جماعية، خصوصا اذا كان العزف على اشد الاوتار حساسية بالنسبة لها وهو وتر الحرية، وان كانت الحرية ليست سوى اقنوم في ثالوث ابدي يشمل الفقر والخوف وهما المحركان لمفاعيل الاستجابة كلها، لأن الانسان يبحث بالفطرة عن تلبية حاجات وغرائز في حدود الضرورة اضافة الى البحث عن مأمن، وما يسمى الان في أدبيات الاعلام الشعبوية هو بالضبط ما يعنيه لوبون ومن اقتفوا خطاه بتغليب العاطفي على العقلاني، ذلك لأن ثنائية الاقبال والادبار لدى الشعوب محكومة بالخطاب الذي يتوجه به اليها، وثمة حاذقون في استقراء المزاج العام يقدمون اشباعا سريعا لرغبات حتى قبل اعلانها، مقابل آخرين أقل ارتهانا للحظة وأميل الى التحليل البارد الذي يتطلب شيئا من الوقت .
ان ما يثيره كتاب كهذا صدر قبل قرن ليس فقط لأهمية ما فيه من اطروحات، بل لأن الوقت مناسب لاعادة طرحها والسجال حولها، رغم ان هذه الحكاية المتعلقة بالاستجابات الشعبية وتموجاتها ليست طارئة، وتكفي امثولة يوليوس قيصر وبروتوس لتقديم عيّنة مبكرة منها في التاريخ، فالبروباغاندا لم تولد اليوم او البارحة وكذلك الميديا المسلحة والمؤدلجة، لكن ما حدث هو ان الاسماء تبدلت، ففي الجاهلية كان بمقدور شاعر ان يرفع من شأن قبيلة ويخفض من شأن اخرى اذا شاء كما فعل احد الشعراء بقبيلة بني عبد المدان التي تحولت من قبيلة بغال لها عقول العصافير الى قبيلة تجسد أرقى ما يصل اليه الانسان من بيان وقوة جسد ..
وكان بمقدور شاعر آخر ان ينقذ أبا له سبع بنات عوانس بحيث يهرع الرجال الى زواجهن تباعا، لمجرد انه وصف الأب بأن يديه يدا صدق فكفّ مُبيدة وأخرى كريمة تنفق بلا حساب اذا ضنّ الاخرون بالمال .
تلك هي الصورة البدائية لميديا هادفة الى تجميل القبيح والعكس ايضا مقابل أجر سواء كان ماديا على طريقة الاعلان او ايديولوجيا مسيّرا من حزب او طائفة او دولة.
* * * * * *
الكناب الاخر الذي عمره قرن غاشم هو طبائع الاستبداد لعبد الرحمن الكواكبي، ذلك الرائد الحلبي الذي فرّ في زمن التتريك الى مصر لكنه مات مسموما في أحد المقاهي.
طبائع الاستبداد للكواكبي هو مبتدأ الجملة التاريخية الناقصة، لأن العالم بعد عقود من صدور الكتاب، دخل الى حقبة جديدة هي حقبة صنائع الاستبداد وليس طبائعه فقط، والاستبداد عند هذا الرائد النهضوي سلالة، انه اسلاف وابناء وأحفاد، لهذا يصعب ان نعثر على دابره لقطعه كما يقال في بلاغتنا، كما ان له ايضا ثقافته وجذوره وبالتالي امتداداته وتجلياته لكن بصورة مختلفة لأن التطور لم يكن حكرا على النافع في حياة البشر، فالكذب ايضا تطوّر واصبحت له تكنولوجياه، وكذلك التعذيب من خلال تقنيات سادية اضافها العلم في اشدّ ابعاده سلبية .
يبدو كتاب الكواكبي عن الاستبداد كما لو انه كتب قبل أعوام قليلة، لأن الاستبداد اندفع الى أقصاه في هذه الاونة الحرجة، ولم تكن الانفجارات المتعاقبة والترددات الزلزالية في عالمنا العربي الا من افرازاته ومن فائض مكبوتاته، التي ادى الى تأجيل انفجارها في مواعيده الافتراضية الى حراكات عنيفة فيها ماهو أقرب الى العشوائي بسبب غياب البوصلة او عطبها المؤقت .
أخطر ما في تفاقم الاستبداد هو امكانية التأقلم معه، وتحويله الى أمر مألوف لفرط تكراره، عندئذ تكون سادية المستبد قد انتجت ماسوشية ضحية الاستبداد، وقد حدث بالفعل ان مثل هذا الادمان الماسوشي قد أجل اندلاع ثورات وعصيانات في التاريخ .
اما السؤال فهو هل كان لمثل هذه الكتب نفوذ معرفي بحيث تعبر القرون ام ان مادتها الخام وموضوعاتها هي ما تكرر لكن على نحو مأساوي هذه المرة ؟
اذا سلّمنا بأن تكرار التاريخ لا بد ان يكون بين صيغتين احداهما كوميدية والاخرى تراجيدية، ورغم ان كتاب طبائع الاستبداد هو الأشهر في موروث الكواكبي بحيث اقترن اسمه به، الا ان له مؤلفات اخرى منها ‘ ام القرى ‘ تحتاج الى اعادة نشر واستقراء ايضا، ليس فقط لأنه تخيّل يوتوبيا قومية تلتئم فيها الاطراف المتنازعة حول همّ جامع وتحت قاسم مشترك انساني واخلاقي بقدر ما هو وطني، بل لأن الوطن العربي بعد تسعة وتسعين عاما من معاهدة سايكس ـ بيكو يبدو على تخوم فصل جديد، بحيث يتولى العرب انفسهم هذه المرة اعادة رسم التضاريس السياسية وفق مقياس طائفي .
* * * * * *
ان اختيار هذين الكتابين ليس فقط لأهمية ما قالاه قبل قرن وبلغتين مختلفتين وتحت سقفين حضاريين مُتباعدين، بل لأنهما يمثلان اتجاهين جذريين فيما يتصل بالشقاء البشري والتلاعب بالوعي الجمعي، ففي الاستثمار السريع والنفعي لشقاء الشعوب تكون الاجابات والتشخيصات اشباعا كاذبا لجوع مزمن .
غوستاف لوبون يثقب القشرة الرقيقة التي تخفي تحتها عالما سفليا يعج بالتناقضات، والكواكبي كان له الفضل في نقل السؤال المجرد الى المساءلة السياسية والاخلاقية، هذه اللحظات التي نعيشها بقدر ما نموتها ايضا هي الاشد حاجة الى ذلك، لأن الاشباع الكاذب يضاعف من الرغبات ويشحذها، والمراوحة عند تخوم المساءلة تبقي السؤال مجرد فضول معرفي وتهريب للواقع بحيث يجري استبداله بأحد واقعين .. احدهما مُتَخيّل او افتراضي والاخر مُترجم !!
تحياتي استاذنا الكبير خيري منصور: حقا لقد اختزلت بهذه المقالة العلاقة الوثيقة بين مقاربة تاريخية تكاد تعيد نفسها كل مائة عام او اكثر. لا اعتقد ان غوستاف او الكواكبي كان يريد ان يتعاطى مع واقع غير متحقق، بل رسم خارطة لم يدرك انها سترسم نفسها بعد قرن وربما بعد قرنين.
فالتاريخ عبارة عن عجلة تدور وكل فترة ومحطة تتكرر احداث بطريقة مختلفة لكن لها نفس المعطيات. والثورات بطبيعتها حركات اجتماعية ان كانت قبل قرون او آنية ونتائجها ومعطياتها دائما تختلف وفقا للتركيبة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع. ثوراتنا العربية لن تخرج عن سياق تاريخي يعبر عن مصالح ومنفعية لذلك لن تكون نتائجها مختلفة عن ذلك السياق المنفعي والارتباطات المكونة للثورة. وعلى ذلك فالعرب في ورطة لان المكون الثقافي للثورات لا ينسجم مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وهذا يعود الى المؤثرات الثقافية المرتبطة بالعولمة.
جملة جميلة :
أخطر ما في تفاقم الاستبداد هو امكانية التأقلم معه، وتحويله الى أمر مألوف لفرط تكراره، عندئذ تكون سادية المستبد قد انتجت ماسوشية ضحية الاستبداد، وقد حدث بالفعل ان مثل هذا الادمان الماسوشي قد أجل اندلاع ثورات