إذا تفوقت حضارة ما على غيرها من الحضارات، فإنها تتفوق عليها في كل شيءٍ: من أخمص الحذاء حتى أعلى سلاح جوي، مروراً طبعاً بكل ما لا يخطر على بال.
وإذا كان التفوق مسألة نبوغ وبحث وتجريب واجتهاد… فإن أمر الحفاظ عليه لا يقل تعقيداً. فعلى نَوْلٍ من الدهاء نُسِجت على مر العصور أسيجة التكتم على هذا التفوق أو ذاك حتى يظل قائماً لأطول مدة ممكنة.
حين اكتشف الإغريق الجذورَ المربعة، فتحوا بذلك نافذة على مجموعة الأعداد الحقيقية، وهي أرض جديدة ليست وحدها علوم الرياضيات ما سَيَيْنَعُ فوقها وإنما علوم أخرى كثيرة. فهل يعلم أولاد المدارس، الذين بأصبع واحدة يخرجون من آلاتهم الحاسبة ما شاءوا من الجذور المربعة، أن هذه الأخيرة ظلت لسنوات طويلة سراًّ محاطا بالكتمان؟ الكتمان الذي يستعان به على قضاء الحوائج ما زال يحيط بكوكاكولا لما يربو على مائة سنة وذلك طبعا لحاجة اقتصادية في نفس العم سام. ولكم أتمنى أن يطول بي العمر حتى أراها تتعرى، تلك الزنجية اللذيذة (أقصد كوكاكولا)، فيصبح بإمكان ربات البيوت أن يوسِعنها إعداداً وبأسرع مما يفعلن مع الشاي.
ليس الكتمان فقط ما يفي بالغرض دائما، وإنما نقيضه أيضا، أقصد الشيوعَ، صنوَ الإشاعة طبعا. وهو ما يقتضي صقل أنجح الأدوات وأنجعها. وإذا كان البعض يرى في الصورة الأداة المناسبة لهكذا دور، فإنني نكاية بهما معا، البعضِ والصورةِ، أرشح اللغة، حليفيَ الدائم، وأصوت عليها برُمَّتي.
إن لسان حال التقدم هو اللسان شخصيا، أقصد اللغة. فما إن تصعد حضارة ما إلى البوديوم الذهبي حتى يعتلي لسانها عرش اللغات ويصير له رعايا في مختلف الأقطار. فاللغة ليست فحسب، كما علمنا مدرسونا الطيبون، أداةً للتعبير ووسيلة للتواصل وهلم هذراً… وإنما هي أخطبوط عينه بصيرة وأذرعه طويلة. ففي الثقافة والسياحة كما في التجارة والسياسة… هنالك دائما تلك الذراع اليمنى، الذراع القوية الجبارة ذات البطش الفصيح، الذراع التي تمرر القرارات وتوقع الاتفاقيات وتجلب الاستثمارات وتصوغ بعناية مصائرَ الشعوب.
لعل القوى الاستعمارية، بذكائها ودهائها، قد انتبهت لأهمية هذه الشعرة، شعرة معاوية، فلم تقطعها أبدا، بل على العكس من ذلك، عملت ومازالت على تقويتها متعهدة إياها بالرعاية ضامنة بذلك جسراً آمنا ومعبَّداً نحو مصالحها في مستعمراتها القديمة. ولقد جندت لهذه المهمة النفيسة جيشا من الموظفين تابعين لسفاراتها في كل البقاع يسهرون على نشر لغاتهم بإنشاء مراكز ومعاهد لتدريسها وبتشجيع ترجمتها والترجمة إليها والتأليف بها… وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. صحيح أن هذه الدول تخصص ميزانيات ضخمة لإشاعة لغاتها بين مختلف الأقوام والأعراق، لكن ما تجنيه من وراء ذلك يستحيل إحصاؤه ماديا.. فأحرى معنويا.
من الناحية الثقافية اغتنت هذه اللغات بما يكتب بعض الكتاب من المستعمرات القديمة وبعض القادمين إلى نور عواصمها من مختلف العتمات. فعززت مكانتها في المكتبات ومنصات الجوائز وصار لها، بفعل شبكات التوزيع، ملايين القراء في أنحاء العالم. وإذا أضفنا إلى ذلك أن بعض الكتب تتحول إلى سيناريوهات فإلى أفلام تغزو شاشات العالم وتحصد الأوسكارات والدببة والسعف… جاز لنا القول إن اللغة دجاجة ذات بيض ذهبي، ولسوف تظل كذلك طالما هي ترتع في حقول وبيادر الآخرين. سأكون، دون شك، ساديّاً على زملائي من الكتاب العرب وأنا أضرب للقارئ الكريم هذا المثال: إن مجموع ما تقاضته الكاتبة جي. كي. رولينغ صاحبة سلسلة هاري بوتر مقابل كتبها وترجمة هذه الكتب وتحويلها إلى السينما هو ستمائة دولار فقط، ستمائة دولار عن الكلمة الواحدة طبعاً.
في الجانب العلمي، لا تستطيع الدول المتقدمة أن تنكر وجود آلاف من الكفاءات والعقول الأجنبية بين ظهرانيها. وإذا كان الجميع يعزو هذا الأمر إلى تهيئ الظروف المادية وشروط البحث والإبداع، فإن دور اللغة يظل مع ذلك بارزاً. ولئن كان العائد المادي للكتب والأفلام وغيرها من ثمرات الثقافة يمكن إحصاؤه، فإن ما يقدمه العلماء لا يقدر بثمن. فبكم مثلا يقدر وجود أحمد زويل في أمريكا وهو العالم المصري الذي لا نعرف ماذا تستفيد مصر من إنجازه المدهش؟ وبكم يقدر وجود كمال الودغيري في النَّازا وهو العالم المغربي الذي أشرف ضمن خلية من ستة علماء فقط على عمل المِسْبار الذي وضعته أمريكا فوق المريخ؟
من الناحية الاقتصادية، تعتبر اللغة جسراَ أساسيا نحو الأسواق. فبها يتم الإعلان عن المنتوجات، وبها تكتب نشرات الدواء، وبها تصدر الكتيبات التي تعرِّف بمختلف الأجهزة .. أما بدونها فسيكون حوار الزبون مع البضائع كحوار الصم.
هكذا، إذن، تكون اللغة كمثل إسفنجة سحرية تمتص الأمواه / الأموال من مختلف المنابع والمجاري.
يضيق حيز هذه الورقة، أيها القارئ الكريم، عن تِعداد مناقب اللغة كناطق رسمي باسم الحضارة وكوسيط فصيح لا يعود إلا غانماً. ولأنك تستطيع أن تفعل ذلك بنفسك، فتعال نذهب إلى النتيجة رأساً: اللغة قوة امبريالية عظمى .
أيتها اللغة، شعرة معاوية أنت أم شعر شمشون؟
‘ شاعر مغربي