العرب وعمى الألوان الديمقراطي

اخر حالات وباء غامض وقاتل يضرب اجزاء واسعة من منطقتنا العربية وينتشر فيها بسرعة جنونية غير مسبوقة، رصدت خلال اليومين الماضيين في مصر وتونس. الوباء الذي لم تتمكن حتى الان اجهزة الرقابة الصحية الرسمية من رصده، فضلا عن محاصرته والقضاء عليه وليس لها على ما يبدو لا الجدية ولا الرغبة الحقيقية في الاقدام على ذلك. يمكن تسميته ‘بعمى الالوان الديمقراطي’ وهو مرض تبدأ اعراضه الاولى في الظهور فور بقاء المواطن العربي بلا حد ادنى من المناعة المطلوبة والضرورية لمقاومة التشويش المسبق والمتعمد على الصورة، فيسقط نتيجة القصف البصري المستمر والمتواصل في موجة اضطراب حادة، قد تقوده في ما بعد الى انفصام كامل في الشخصية وتفقده القدرة على التمييز بين الابيض والاسود، او التفرقة بين العدو والصديق.
في الحالة الاولى اي مصر نقل موقع الكتروني مقطع فيديو يظهر مجموعة من الافراد تهم بحرق العلم التونسي، في سياق ما وصف بالاحتجاج على تدخل قطر وتركيا في الشؤون الداخلية المصرية. التفسير الذي قدمه البعض لذلك هو ان تلك المجموعة اخطأت العنوان، او بالاصح وقعت ضحية خلط في الاعلام والرايات فلم تفرق بين العلم التركي والتونسي، وانها لم تقصد ابدا اظهار العداء لتونس وشعبها.
اما في الحالة الثانية التي تزامنت مع الاولى فقد خرج السفير المصري من لقاء مهم جمعه برئيس حكومة التكنوقراط التونسية الجديدة ليخبر الصحافيين، بعد مقدمة بروتوكولية معتادة، انه اطلع معاليه على ‘حقيقة الاوضاع في مصر’ وان المسؤول التونسي تمنى انتهاء المرحلة الانتقالية في مصر بسرعة.
ما يمكن ان يعنيه ذلك ببساطة هو ان تلك الحالات المرصودة ليست سوى مؤشرات اضافية جديدة تؤكد مرة اخرى على ان انضاج التجربة الديمقراطية في الدول العربية مايزال بحاجة لكثير من الوقت والجهد.
الفهم الخاطئ والمغلوط لذلك الوافد الجديد، اي الديمقراطية، يقود بالتأكيد الى استنتاجات خاطئة وردات فعل عشوائية قد تلحق اضرارا غير متوقعة وتعطل نموه الطبيعي المنتظر والمطلوب. وسوف يكون من باب التجني ان يقع وضع جميع التجارب العربية في سلة واحدة للحكم لها او عليها. فهناك مسار معطل ومتوقف في مصر، واخر يسير بخطى بطيئة لكن محسوبة نحو هدفه النهائي في تونس.
قلب الادوار هنا هو خداع بصري وتاريخي مدمر للحقيقة، فضلا عما يلحقه من اضرار كارثية خطيرة على آخر ما تبقى من ذكاء الشعوب العربية وفطنتها الغريزية. وقد تكون المجاملات الدبلوماسية احيانا شرا لا مفر منه، وهذا امر مفهوم ومقبول الى حد ما من قبيل الكلام المنسوب لرئيس الحكومة التونسية من انه يتمنى تلك النهاية السريعة لـ’المرحلة الانتقالية’ في مصر، لكن المقلق في الموضوع هو ان يكون ذلك ستارا ناعما يتخفى وراءه الاستبداد، ورداء انيقا يتجمل به الانقلابيون من جرائم مروعة اقترفوها بحق الشعب في مصر و تجربته الديمقراطية المعطلة، فضلا عن ثورته التي اجهز عليها العسكر بكل شراسة ودموية.
ليس هناك من الناحية العملية ما يدفع رئيس حكومة دولة صفق لها العالم كله طويلا لما انجزت دستورا توافقيا فريدا في العالم العربي وقطعت شوطا متقدما نحو ارساء مؤسسات ديمقراطية مستقرة من ان يمد يده لسفير دولة ادارت ظهرها بالكامل للديمقراطية، وتستمر في ملاحقة كل نفس معارض باسم مقاومة ارهاب الاخوان.
ولكنها للاسف الشديد لعبة المصالح القذرة، فتونس تدرك ان فك الحصار العربي المضروب عليها منذ اعوام يمر بالضرورة عبر تقديم بعض التنازلات المؤلمة والصعبة، والطرف الاخر يحتاج ايضا بدوره لان يستعيد بعضا من النقاء والصفاء المفقود، حتى لو تم ذلك ببعض الكلمات التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
المبدأ المقدس لجميع الانظمة العربية على مر التاريخ هو عدم التدخل في ما يسمى شؤونا داخلية للدول، وهو مبدأ استغله المستبدون في السابق ولا زالوا حتى الان لتطويق دولهم وعزلها عن اي سند او دعم خارجي للمطالب بالحريات والحقوق. الان يبدو ان الديمقراطيات الناشئة من قبيل الديمقراطية التونسية باتت احرص من غيرها على المطالبة بأن يشملها ذلك المبدأ وان يلتزم به الشقيق قبل الصديق حتى لا تبقى تجربتها الغضة رهينة بأيدي حفنة من المغامرين او القناصة ممن يملكون المال ويحتقرون العقل.
لا يمكن ان تنجح التحولات التي تعرفها بعض الدول العربية في الوصول بسلام الى بر الامان مادامت تلك الآلة الرهيبة والمجنونة من الاموال والسلاح تتدفق بلا رقيب او حسيب، لا فقط لاعطاء سند يثبت الاستبداد الجديد ويقوي عوده، بل ايضا وهذا الاخطر لاجهاض النماذج الديمقراطية التي تملك فرصا ولو محدودة للاستمرار والصمود.
تونس تستعد بعد الدستور لاجراء انتخابات تكون تتويجا لمرحلة انتقالية شهدت الكثير من العواصف، وتعرضت للهزات والمؤامرات، اما في مصر فالمشهد على حاله والتتويج الوحيد المنتظر والمتوقع هو للقيصر الجديد الذي باركه بوتين على حساب الديمقراطية. اما بين هذه وتلك فباقي الاقطار العربية التي ذاقت نسائم الربيع الاولى لم تعد تعرف بالضبط خط سيرها ووجهتها النهائية بعد ان فقدت بوصلتها وسط الضباب الكثيف واصيبت هي ايضا بعمى الالوان الديمقراطي. يقول بعض الماكرين ان الشفاء من ذلك الداء قد يكون متاحا وممكنا، خصوصا ان هناك رئيسا عربيا شابا هو في الاصل طبيب عيون.
اما ما تقوله الشعوب فهو ان ذلك الطبيب وامثاله هم المتسببون في علاتها وامراضها المزمنة والعويصة، وان لا شفاء الا باستبدالهم جميعا باخرين يملكون الكفاءة المطلوبة وباستطاعتهم ان يزيلوا ببراعة غشاوة كثيفة ظلت تحيط لعقود طويلة بالعيون العربية الجميلة والعليلة.

‘ كاتب صحافي من تونس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Allani Kaouther:

    نقشة حلوة يا نزار ربي يوفقك

  2. يقول معز تونس:

    تحليل دقيق و قراءة موضوعية للواقع السياسي التونسي و المصري لكن ماذا عن ليبيا وسوريا و اليمن’؟

  3. يقول محمد كمال بن صالح- فنلدا:

    لقد أبدعت هذه المرة، ذكرتني بإبداعاتك وميزات كتابتك في ماض ليس ببعيد، مثلما قالت كوثر” نقشة حلوة” واصل على نفس المنوال ربما نستوعب الدروس في يوم من الأيام.

  4. يقول نضير الجراية:

    حسب رايي أن المواطن العربي الغارق في حجياته اليومية و الغائب سياسيا هو الذي ترك الفرصة للحكام ليعبثو به

  5. يقول عمر:

    إن التاريخ لن يرحم كل راع اخطأ في حق رعيته، اما القادة وكما ننعتهم بالكفاءة فما المانع ان يكونو طغاة و ماسونيين على الطريقة الغربية ويسعون لفرض سيطرتهم المطلقة على الشعوب العربية دون رادع و يلبسون ثوب العفة و الطاهرة ليضهرو بمنظر المدافع عن الحريات و حقوق الإنسان.

إشترك في قائمتنا البريدية