من يتطلع الآن إلى سير الأحداث العالمية، والمنحى الخطير الذي أخذت تسلكه، لا يستطيع الامتناع عن تساؤل مزدوج حول تفسير الثورات التي نعايشها في العالم. هل كانت الثورات داخلية فتحولت الى أزمات دولية أم انها كانت في الأصل أزمات دولية اتخذت لنفسها شكل الثورات الداخلية ؟ أحداث أوكرانيا وردود الفعل التي أعقبتها لدى جميع الأطراف المعنية بالصراع الدولي، كما تعليقات المعلّقين، تؤيد، على كل حال، هذا التساؤل بكل بوضوح. فأحداث أوكرانيا لم تكن، لا في بدايتها ولا في تطوراتها الحالية، معزولة عن هذا الصراع الدولي الجديد الذي بدأ يتضح شيئا فشيئاً على الساحة الكونية.
الولايات المتحدة الأمريكية تعيش مأزقاً إقتصادياً كبيراً يتميّز بكونه بنيوياّ لا ظرفياّ كما اعتقد البعض في البداية. وهي تواجه دولاّ تتميّز بكونها غير مأزومة إقتصادياّ ولا سياسياّ. والملفت بالمشهد أن هذه الدول، دول البريكس، قامت بعدد من الخطوات التي تمهّد للتقارب فيما بينها. بعضها معلن ويبدو أن بعضها الأساسي غير معلن. شاهدنا على ذلك هذا الإنسجام الضمني لمواقفها في مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة وعلى مسرح الأحداث الدولية. وقد تكون أزمة هذا بسبب تمدد ذاك.
في هكذا ظروف استثنائية في التاريخ البشري، حيث يتراخى تأثير القوى المركزية على الأطراف، يحق لنا الإفتراض أن هذه الأخيرة تستفيد من هذا الهامش من الحرية لكي تتمرد على سلطة المركز وتحاول تحسين شروط استعبادها. في هذا الإطار يمكن البناء على فرضية ثورات داخلية تقوم في الأطراف لكي تنتزع هامشاً استقلاليا جديداً في مجالات السياسة والإقتصاد. كما يمكن الإفتراض أن ما حصل في بلادنا من ربائع عربية قد يكون في بداياته مندرجاّ في هذه الفرضية.
لكن عاملين اثنين قد أدخلا الشك إلى قلوب المراقبين. فالإنتفاضات العربية، والثورات البرتقالية كذلك، لم تعلن صراحة في شعاراتها، في ما قالته وما لم تقله أيضاّ، عن هذه الرغبة الإستقلالية الواضحة. لا بل فإن النخب التي وصلت إلى الحكم بعد المرحلة الأولى من الحرية وإسقاط الطغاة والمستبدين، ليس فقط لم تعلن عن رغبتها بالإستقلال عن دول المركز، بل أعلنت صراحة عن نيتها في الإنخراط أكثر بصيغتها السائدة. فلا عودة عن سياسة الإنفتاح واللبرلة التي قادت إلى تدمير الإقتصادات المحلية وإلى فك عرى النسيج الإجتماعي المحلي. ولا عودة عن كل الإتفاقات السياسية الإقليمية والدولية التي تجعل من البلد التابع تابعاً إلى ما شاء الله. النخب التي وصلت إلى الحكم لم تستفد إذاً من هذا المناخ الدولي المؤاتي لانتزاع الإستقلال والحرية عن دول المركز.
وبالإضافة إلى ذلك، أو قل بسببه، بدت الإنتفاضات وكأنها مدعومة وتحت رعاية من يفترض بأن الثورة قامت لكي تنتزع منه استقلالها. فهي دخلت في إطروحة ثنائية استبداد-حرية التي تعزز من فرص الانقسام العامودي في بلادنا ذات النسيج الإجتماعي الفسيفسائي.فبدلا من الإستفادة من الظرف الدولي، أدخلت نفسها في صراعات داخلية قادت إلى تقتيت المجتمع بدل تغيير السلطة. وبدلا من إغتنام فرصة التضعضع المركزي الدولي لتوسيع هامش مناورتها الاستقلالية في توسيع رقعة اقتصادها لبناء دولتها الصاعدة أسوة بغيرها من الأمم، قامت دولنا بتدمير القليل مما كان موجوداً وتقسيم ما كان مقسماً والإجهاز على ما كان ما يزال ينبض ولو قليلاً.
كأن التاريخ يعيد نفسه في بلادنا. ولا ادري إن كان هذه المرة على شكل مهزلة. ربما. المفارقة في مثل هكذا ظروف من احتدام الصراعات الدولية أن هذه الأخيرة تتيح الإمكانيتين في ذات الوقت. فهي تتيح التحرر من الهيمنة كما تتيح الغرق فيها والتسليم لروادها والانقياد لقوتها والتسليم بعظمتها. فكما يمكنك أن تستفيد من غياب طرف مركزي يقود اللعبة الدولية وحيداّ، ومن صراع حاد على المركز بين القوى الصاعدة والقوى المنحدرة، يمكنك كذلك ان تقع في حبائل هذا الطرف أم ذاك من القوى المتصارعة في العالم.
إزاء هذه التطورات لا يستطيع المراقب أن يتجنب المقارنة مع ما جرى في بداية القرن العشرين في بلادنا من أحداث متشابهة إلى حد كبير. كان مسرح الصراع في بلادنا يقتصر، آنئذٍ، على الامبرطورية العثمانية السائرة بطريق انحداري واضح، إلى حد حصلت معه على لقب ‘الرجل المريض’، وعلى قوى استعمارية جديدة في العالم، تسعى إلى الحصول على ميراث العثماني المنازع، هي بريطانيا العظمى وفرنسا بشكل رئيس. وقد تم لهذه القوى الجديدة وضع اليد فعلا على مقدرات الامبراطورية، على الصعيد السياسي، بواسطة خطوتين متلاحقتين.الخطوة الأولى في الربع الأخير من القرن التاسع عشر عندما ظهرت حركة ‘المشروطية’ في تركيا ( وإيران أيضا).
و’المشروطية’ هي عبارة عن حركة المطالبة بإقامة دستور للبلاد وسميّت كذلك لأن القائمين بها اعتبروا مواد الدستور بمثابة ‘الشروط’ التي يجب أن يتقيّد بها الملك في حكم البلاد. وغني عن البيان أن المشروطية كانت يومها شعاراً ‘متأثراً’ جداً بالقوى الاستعمارية الجديدة بهدف إثارة البلبلة الداخلية في الإمبراطورية وتحضير الأجواء لتفكيكها إرباً، ذلك أن هذه المعركة التي تحمل في ظاهرها التحديث والعصرنة قد حملت في باطنها عوامل إنهاك الإمبراطورية من الداخل خصوصاً وأن التحديث يجري تحت إشراف الإنكليزي مباشرة.
وأما الخطوة الثانية فقد جرت في عام 1916 مع قيام ‘الثورة السورية الكبرى’ بقيادة شريف مكة الحسين بن علي وبرعاية ‘ لورنس العرب’ بهدف إسقاط الاستبداد التركي وإقامة المملكة العربية المتحدة ب’وعد’ انكليزي صريح لم يلزم بالنتيجة إلا
من صدقه. العمل في كنف الإنكليزي لم يقد إلا إلى تفكيك الامبراطورية والسيطرة عليها نهائياً وتقسيم بلاد العرب إلى نتفٍ يسهل السيطرة عليها.
إن مثال ‘الثورة السورية الكبرى’، المتحالفة (تقاطع مصالح) مع الإنكليز والتي تبين فيما بعد أنها لم تكن إلا مطية استخدمها الإنكليزي للسيطرة على البلاد، يؤكد، مرة جديدة، أن الثورات في ظل هيمنة خارجية عليها لا تقود إلى ما تنشد بل إلى ما ينشد الخارج.
مقال جميل جدا و تحليل رائع فشكرا جزيلا .