في حياة كل منا نوع من الصداقة لا نتأمله كثيرًا. صداقة الأمان لنسمها؛ أن يكون أحدنا مطمئنًا لأن هناك صديقًا على مقربة، لا نهاتفه كل يوم ولا نلتقي به كل أسبوع، لكن صداقته الكامنة تحقق الأمان الذي تحققه الصداقة النشطة.
هكذا كان عزازي علي عزازي، بالنسبة لي، لكنه رحل الأربعاء. وإن كان هناك من غبطة تحققها نعمة الكتابة، فهي غبطة أننا نجد من نحكي له.
يوغل العالم في التداعي كلما أوغلنا في الكتابة. وهذا يكفي للشك في جدوى هذه المهنة المؤسفة، لكن الكاتب يغتبط ـ على الأقل ـ عندما يكتشف أنه أفضل حالاً من حوذي قصة تشيخوف، الذي لم يجد غير حصانه يشكو له ألم موت ابنه.
عزازي الناقد الأدبي الذي أخذه النضال السياسي، جندي آخر من ‘أكياد’ القرية التي أنجبت مجندًا بسيطًا اسمه سليمان خاطر قتل سبعة إسرائيليين اقتحــــموا نقطة حــراسته في 5 أكتوبر 1985، ومات في الحبس ميتة قُيدت انتحارًا، ليخلد اسمه بين شهداء المواجهة مع العدو الصهيوني. هل بين العرب اليوم من يذكر ذلك العدو إلا في مناسبات المزايدة السياسية على بعضنا البعض؟!
انخرط عزازي في لجنة الدفاع عن ابن قريته سليمان خاطر، وهو عضو مؤسس في حزب الكرامة وفي حركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير ثم التيار الشعبي. دائمًا كان جنديًا لا يسعى إلى رئاسة أي شيء. واحد من أنقى الجنود في التيارات السياسية التي تذهب قيادتها دائمًا لغيره.
وعلى الرغم من وضوح المشروع المدني في رأسه، كان فلاحًا يؤمن بروابط القرية والعائلة، ولهذا كان دفاعه عن سليمان خاطر التزام سياسي تحزمه رابطة القرية، وهي الرابطة التي جمعتني به أكثر من غيرها، ربما بحرصه هو على تلك الرابطة. تشاركنا في العناية بأصدقاء شراقوة (أي من محافظة الشرقية) أصابهم الإلتهاب الكبدي اللعين وشيعناهم معًا واحدًا بعد الآخر، قبل أن يلحق بهم عزازي نفسه، بالمرض ذاته، الذي لم يزل أكبر مؤامرات الفساد السياسي على الشعب المصري.
تشاركنا معًا في يوم الخامس والعشرين من يناير. كنا بين المجموعة التي بدأت التظاهر أمام دار القضاء العالي، قبل أن نتسلل من حصار جنود يسدون عين الشمس لنلتقي مع المسيرات الأخرى المتوجهة إلى ميدان التحرير، في ذلك اليوم عرجنا على جريدة ‘الكرامة’ التي دخلتها للمرة الأولى والأخيرة معه، أرحنا أقدامنا، وشربنا الشاي مع بعض الزملاء من صحافييها على إيقاع من الأمل لم أعرفه من قبل ولا من بعد.
نعم، كنا في الثورة نشرب الشاي ونتبادل النكات ونرعى الأمل، وفي لحظة تنحي مبارك لم نعرف أننا في بداية المشوار لا نهايته، ولم ندرك أن إطاحة رأس جبل الغائط العــــائم لا تعني أن تشبيكات المصالح الكبرى التي قامت الثورة ضدها سوف تتفكك بسهولة.
في إحدى نوبات الغرابة التي انتابت الممسكين بخيوط اللعبة بعد 25 يناير، تولى عزازي علي عزازي منصب محافظ الشرقية. وكان أمثالنا يعتبرون هذا تغيرًا يبعث على الأمل، بينما كان اللاعبون يذرون رماد الثوار في عيون الثورة؛ يبيضون وجوههم بمنصب هنا أو هناك يتركونه لعزازي أو كمال أبو عيطة أو من شابههما، ثم سرعان ما يتخلصون من ذلك العنصر الثوري، حتى لا يصدق الثوار أنفسهم ويعتقدون أن ثورتهم تتقدم.
في حالة عزازي، لم يحدث هذا. هو الذي استقال فور وصول الإخوان للسلطة. ألح عليه مرسي في البقاء واعتبر قراره متسرعًا، لكنه رفض الإستمرار بصلابة، وقال ببساطة إن مشروع الإخوان يتعارض مع مشروعه ورؤيته للدولة المدنية المصرية.
عندما كان محافظًا كنت سعيدًا بأنه هناك. صديق كامن وناقد أدبي منصرف عن النقد إلى بناء مسقط رأسه ومحاولة تحقيق ما يحلم به في حدود الإمكانيات التي وجدها تحت يديه. قاومت محاولات ريفية تدفعني للشفاعة عند المحافظ الصديق لإنجاز بعض المصالح. أكثر من هاتف تهنئة في بداية تعيينه لم أتبادل معه. وبعد أن استقال عدنا معًا إلى مسقط رأسينا، في ضيافة الصديق الطبيب الناقد الكامن والسياسي منذ نعومة أظفاره رشدي يوسف.
ذهبنا معًا إلى نادي المحافظة، رأينا أخلاطًا من البشر المرحبين، ولمست كم كانت شحنة الإخلاص والإبداع التي أضافها عزازي للمنصب لم تزل حية في قلوب أبناء الزقازيق عاصمة الإقليم، ثم قضينا؛ ثلاثتنا، بقية النهارين والليلة في الكلام ببيت الصديق رشدي.
الآن، لم يعد عزازي في الزقازيق ولن يذهب إلى مكان آخر، بعد أن استراح نظيف السيرة في أرض أكياد الأكثر حنانًا عليه من أي أرض.
رحم الله واسكنه فسيح جناته