الاختيار بين إعلام ‘الراقصات’ وإعلام ‘البلطجية’

انه عصر هيمنة الاعلام بكافة اشكاله ووسائطه. قليليون يمكن ان يطعنوا في هذه الحقيقة التي باتت تسهم بشكل حاسم في رسم مصائر انظمة واوطان. لكن كثيرين يعتبرون ان تلك ‘السلطة الاعلامية’ اصبحت كثيرا ما تمارس سطوتها باسلوب اقرب الى ‘الديكتاتورية’ او حتى ‘البلطجة’، في غياب اي التزام طوعي باصول مهنية او واعز من ضمير، او اي رغبة في دفع الخطوط السياسية الحمراء التي تكبلها حتى اصبح بعضها قانيا بلون الدم.
وبالفعل تزاحمت احداث وتطورات اعلامية الاسبوع الماضي، تجعل من مراجعة دور الاعلام في هذه المرحلة جزءا ضروريا من اي بحث جدي عن حل للازمة السياسية. لقد بات المشهد الاعلامي العربي بائسا ومبتذلا بشكل غير مسبوق، تختلط فيه السخرية بالحسرة، من دون ان ينفي ذلك وجود صحف رصينة تتحرى الموضوعية، وقنوات جادة وان كانت لا تصبر كثيرا على القبض على جمرة الحياد.
وهذه محاولة سريعة للمشي في هذه الكثبان من الرمال المتحركة:
1- اصبح الاعلام العربي جزءا اساسيا من الازمة، بدلا من ان يساعد صناع القرار والجمهور في آن على اضاءة الطريق نحو العثور على بداية لخيط الحل، وتتبعه، بل ان الاعلام تحول الى ‘سلاح’ بالمعنى الحرفي، في المواجهات السياسية والامنية، إما عبر التحريض او التشهير او تزييف الحقائق في صورة من ابشع انواع ‘البلطجة’ ليس على الانظمة المستهدفة فحسب، بل على المشاهدين ايضا، وعلى المهنة قبل هؤلاء جميعا.
لقد اصبح من الصعب التصور ان تكون الهيمنة الاعلامية، في الفضاء خاصة، بعيدة عن الصراع الاستراتيجي على النفوذ الاقليمي بين الدول والحكومات على الارض. حتى ان الصراع في المنطقة العربية اصبح يبدو وكأنه يدور بين قنوات فضائية اكثر منه بين دول وحكومات. ولعل القارئ يذكر تصريح الرئيس السوري بشار الاسد الذي اشار فيه الى ما يشبه هذا المعنى عندما قال قبل اكثر من عام ‘انهم يسيطرون على الفضاء لكننا ننتصر على الارض’، في اشارة الى دور القنوات الفضائية المعادية لنظامه. كما اتهمت قنوات فضائية في اكثر من بلد بعدم الاكتفاء بتغطية الاحداث، بل بصنعها ايضا لتجد مادة اعلامية او ‘ذخيرة’ لاستخدامها. لقد اصبح من غير الممكن تصور اي مقاربة ذات معنى لاي حل سياسي في الشرق الاوسط، من دون اعلان ‘هدنة اعلامية شاملة’ اولا تسمح بتسوية هي الضرورة الحتمية لانهاء او حتى ادارة هذه الصراعات.
2- ان التهافت على الشعبية ونسب المشاهدة التي هي ضرورية لجعل ‘السلاح الاعلامي’ اشد فتكا، جعل، كما في الحروب العسكرية، كل شيء جائزا.
ومن هذا المنطلق جلست راقصة ارمينية على مقعد سياسيين مصريين وعرب في قناة سعودية، في حين ان القناة لديها برنامج اخر تقدمه راقصة معتزلة، ينتظر ان يستضيف ربما السياسيين وصانعي القرار، في تبادل او اختلاط للادوار، يعكس التشابه المتزايد في الجوهر بين الرقص الشرقي والعمل السياسي العربي في هذا الزمن، بل ان راقصات ومغنيات اسسن شهرتهن على ارتداء ملابس مثيرة، وليس على موهبة فنية حقيقية، اصبحن ممولات رئيسيات في قنوات فضائية ومواقع اخبارية تزعم انها ‘سياسية’، إما بهدف الترويج لهن او محاربة ‘اعدائهن’ في الساحة الفنية. ما يثير اسئلة حول ‘الاسم الواقعي’ الذي يستحقه اولئك المنتسبون زورا الى مهنة الصحافة والاعلام بينما يقبلون القيام بهذا ‘الدور’.
3- وبنظرة بانورامية، يتبين ان المنطقة العربية بقيت وحدها جزيرة ليس فقط من الانظمة الديكتاتورية المتخلفة التي تنتمي الى العصور الوسطى، بل ومن الانفلات والفوضى الاعلامية ايضا، ما يعني ان هذه الامة تسير في طريق مضاد للتاريخ والتطور الانساني الطبيعي، وبالتالي فان السؤال ليس ان كان التغيير سيحصل لكن متى وبأي ثمن؟ وهذا سيتوقف على مدى ضراوة بعض تلك الانظمة ودمويتها.
واخيرا فان المواطن العربي الواقع بين رحى ‘اعلام الراقصات واعلام البلطجة’ لا يملك رفاهية الاختيار. وان كان عليه ان يمارس كافة اشكال المقاومة ضد هذ العبث، إما بالضغط السياسي والمقاطعة التجارية او كليهما. وهنا يتوجب على منظمات المجتمع المدني ان تقوم بواجبها في حماية عقول المشاهدين، خاصة الاجيال الجديدة التي تتربى على اعلام الحقد والطائفية، من هذا الانتهاك الاعلامين، كما تتدخل لحمايتهم من الانتهاكات الامنية.

‘ كاتب مصري من أسرة ‘القدس العربي’

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول saadalihassan:

    واين هي منظمات المجتمع المدني ياستاذ خالد
    انها اصبحت جزء من المنظومة

  2. يقول حسين خميس - المنصورة:

    للاسف ان ما جاء في هذا المقال الرائع صحيح تماما. الصحافيون الذبن يعملون عند مغنيات وراقصات في فضائيات او مواقع اخبارية ليسوا صحافيين لكنهم ،،،،، لامؤاخذة.

  3. يقول احمد بسيونى بشارة مصر دمنهور:

    كلام زى الرصاص فى جثث من نحاس ….من يعى

إشترك في قائمتنا البريدية