ذات انتفاضة فلسطينية فاز بوستر في مسابقة كونية عن دراما اللجوء والثورة، كان رسالة اعادها ساعي البريد الى مصدرها وقد كتب عليها :
RETURN TO SENDER ة. NO SUCH ADDRESS
وهذا بالتأكيد هو مصير رسالتي الى من لا يهمهم الأمر، في زمن تحول فيه اولياء الأمر الى ولاة قهر وزجر، واذا اقتصرت على الثقافة في هذا المقال فذلك لأنها جذر المسألة كلها، فهي مرادف الحضارة ومجمل الكيمياء الوطنية والانسانية الذي يفرز الهوية، بوصفها ناراتيف او سردية وطنية اولا، لكن التردي الذي شمل ثقافتنا لم تسلم منه الهوية، عندما اصبحت فرعية طائفية تتغذى كالاعشاب السامة على الشجرة الأم، او فولكلورية تختزل الى زي او طعام او لهجة.
من لا يهمهم الامر هم الذين قرروا اعلان الطلاق البائن مع قضايا استخدموها كمطايا لبلوغ السلطة، بمعنى التسلط لا الإدارة، فهؤلاء مروا بثلاث مراحل .. الاولى بدأت على استحياء وبصوت مهموس غداة وصول الدبابات الى القصور، والثانية فقد فيها كثير من الحياء فأصبح كل شي مباحا ومتاحا كما يقول ديستويفسكي، رغم ان الغياب في حالتنا ليس للسماء بل للأرض وما تعج به من احياء موتى تسعى بهم امعاؤهم كالثعابين على سطحها وبموتى احياء يسهرون حيث هم وعلى موعد محتم مع قيامة وشيكة.
من لا يهمهم امر الثقافة يستولدون بالانابيب الفصائلية او الفسائلية كما سماها محمود درويش اشباه مثقفين لا يفرقون بين شوارتسكوف الجنرال وشوارتسكوف الصابون او الشامبو، وبين ادوارد سعيد وصحافي كان من حصة حزب او فصيل في منابر تتخصص في احتكار الوطن واللغة وتفرط في الامتلاك على حساب الكينونة وفق المفهوم الذي طرحه السايكولوجست إريك فروم، مقابل هذا الافراط ثمة تفريط باذخ وحاتمي بالجوهر وبالقضية الأم التي بدونها يكون الطرد من التاريخ استكمالا للنفي من الجغرافيا حيث لا خيام ولا وكالة غوث، لهذا مورس نمط من التجهيل المقدس والمبرمج بحيث يظن ضحاياه انهم يلعقون دما آخر، والحقيقة انهم يستمرئون لعق دمائهم كالقطط وهم آخر من يعلمون، فالجهل اداة انتحار عقلي ومعنوي يعقبه الانتحار الوطني واخيرا الانتحار العضوي، ذلك لأن مفهوم الابادة والانقراض تغيّر ولم يعد حكرا على البعد العضوي، فثمة كائنات تعيش لكنها لا تحيا ولا تعي انقراضها التدريجي من خلال قضم الوجود والهوية، واذا صحّ ان الثقافة هي في نهاية المطاف مضادات حيوية للقطعنة والامتثال فإن نقيضها هو السائد الذي يرى بأي اختلاف خروجا وبأي تغريد خارج السرب نعيقا، وان المثقف الجدير بهذه الصفة هو مجرد بعير أجرب يجب اقصاؤه من القافلة كي لا تصيبها العدوى.
من لا يهمهم الأمر قلبوا مقولة امرىء القيس او الملك الضلّيل فأصبحت اليوم خمر وغدا خمر ايضا، لهذا عليهم ان لا يفاجأوا بتساقط وتقيّح جلودهم لأنهم ارتدوا الحلل المسمومة التي اهداها لهم الجنرال والمندوب السامي الذي هو قيصر ما بعد الحداثة.
‘ ‘ ‘ ‘ ‘ ‘
كيف يؤتمن البائع المتجول للاثاث المستعمل على لوحة لسيزان او دالي تسربت الى عربته من مافيا المتاحف؟ وكيف يؤتمن على مخطوط لم يُتح لمؤلفه ان ينشره في حياته ! فالحكاية أبعد من دخول فيل او ثور الى متحف خزف، لأن الفيلة والثيران لا تقدم الجهل بزهو ولا تقترح بدائل لما أتلفت.
من لا يهمهم الامر يعملون لدنياهم كأنهم يعيشون أبدا، ولا يخطر ببالهم ما تبقى من هذه الموعظة الرسولية، لهذا فإن وهم الخلود يقتسمه اثنان فقط من البشر، جاهل يظن بأنه استثناء من نواميس الطبيعة، فالموت للآخرين وكذلك الفقدان والخسارة، وطاغية تفصله اوهام التسلط عن جاذبية الواقع فينتحل صفة ليست بشرية ويصدق الببغاوات التي تردد الصدى، ممن يتفننون في مديح ثيابه والتغزل بها في غياب طفل اندرسون الجسور الذي يضبطه مُتلبّسا بعُريه.
والارجح اننا نعيش اليوم المرحلة الثالثة من مراحل من لا يهمهم الأمر، هي مرحلة الصوت الجهوري الذي يزهو بعريه وعورته معا، ويخرج لسانه لمن يهمهم الأمر حتى الموت، ففي هذه المرحلة تعلو العيون على الحواجب وتتحقق نبوءات ديستوبية وليست يوتوبية عن كون الناس يمشون على رؤوسهم، فهذه هي الحالة الوحيدة التي تعلو فيها عيونهم على حواجبهم، وهذا ما حذّرنا منه شعراء موتى ربما نطق الراحل صلاح عبد الصبور باسمهم حين قال:
هذا زمن الحق الضائع
لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله
ورؤوس الناس على جثث الحيوانات
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
فتحسس رأسك
فتحسس رأسك !
‘ ‘ ‘ ‘ ‘ ‘
كان اجدر بأدبنا ان يكون سورياليا او دادائيا ازاء واقع تتسع فيه الحفرة كلما اخذنا منها، لكن الأدب آثر ان يبقى رهينة لكل ما هو اتباعي وغنائي وأفقي، بينما تولت السياسة المهمة السوريالية ومسرح اللامعقول وفي تبادل الأدوار هذا وجدنا انفسنا متورطين في حفلة تنكرية لا نهاية لها، ما دام الفارق قد حذف بين سمسار اللذة ورجل العلاقات العامة او رجل الأعمال مثلما حذف بين الخيانة ومجرد الاجتهاد! واخيرا بين المثقف والموظف. كانت المرة الاولى التي سمعنا بها عن ولي الأمر في المدرسة الابتدائية، فإذا اخطأنا او تغيّبنا عن المدرسة يطلب منا احضار ولي الأمر، ولم يحدث ان كان ولي الأمر شاهد زور، الا في المرات النادرة التي يحضر فيها التلميذ شخصا ينتحل دور الأب مقابل أجر، من لا يهمهم الأمر الآن بلغوا أرذل القهر فبدأوا يسخرون من المهمومين بما يجري لأوطانهم وشعوبهم وبالكمين المسلح الذي ينتظر احفادهم واحفاد احفادهم، لهذا لم يكن صعبا استئجارهم او استعارتهم من سياق الى آخر، هكذا اصبح الأب زوج ام واستحال الدم ماء، اما مهنة الكتابة فقد شملها التّدنيس واصبحت بحاجة الى فك الاشتباك بين العصفور والثعبان وبين الغراب والحمامة، فالحفلة التنكرية تتيح للغراب ان يهدل ويزعم بأن سواده هو ريش يرتديه للسهرة فقط، ما دامت الحفلة تنكرية.
اخيرا، بل اولا اعرف ان ساعي البريد سيعيد الرسالة الى مرسلها فمن لا يهمهم الأمر بدلوا اسماءهم وعناوينهم ومنهم من غيّر لون جلده كما فعل جاكسون لهذا فالإجابة المنتظرة هي:
RETURN TO SENDER ةة. NO SUCH ADDRESS
مقال رائع وجميل وإنساني في تعبيره يفرح بقراءته واسلوبه القلة
المتعمقة من القراء ويهرب من قراءته أنصاف المتعلمين
شكرًا للكاتب
مقال رائع فأين من يعيه
استاذ خيري سمعتك ذات مقابلة تقول انه يوما ما سيلتفت الحصان ويعيد الحق السلوب من زوج الام ولكن عندما التفت ما كان بدري ان هناك من سيقوم بعقره…ما النا غيرك يا الله