اتسع مصطلح السيرة الذاتية مجازيا وعلى سبيل التصنيف الاجرائي للانواع الأدبية لكتابات كان تهريب الذات في الصميم منها، فالسيرة السياسية التي تحمل عنوان المذكرات هي مقترب آخر لكتابة التاريخ، يمكن تسميته المقترب الذاتي، لأنها تعنى بوقائع وأشخاص وسياقات ليست الذات جوهرها وان كانت تصطبغ بالتفكير الرغائبي، واعادة انتاج ما مضى وفقا لمتطلبات الراهن وهواجسه.
وحين اطلق اندريه مالرو على سيرته عنوانا مضادا هو اللامذكرات لا بدّ انه كان يعني ما هو أبعد من ذلك، لأن حياته كروائي ووزير ثقافة ومقاوم في بلاده ومحارب في الحرب الاسبانية لا تقبل الاختزال الى عنوان تقليدي يوحي بأن الرجل جعل من ذاته محور الاحداث، فهو ليس سوفسطائيا الى الحدّ الذي يدفعه الى تقمّص بروتوغراس كي يرى بأن الفرد هو مقياس كل شيء وليس الخطأ والصواب فقط، وهناك عنوانان قد يختصران المسألة كلها على الأقل في هذا السياق، هما عنوان السيرة الذاتية للروائي المصري يحيى حقي وهو ‘كناسة الدكان’ وعنوان سيرة السادات وهو ‘البحث عن الذات’، هنا يفترق الأدبي عن السياسي ليكون فك الاشتباك ممكنا بين مذكرات السّاسة ومذكرات المثقفين والأدباء، وان كان عنوان يحيى حقي رغم طرافته بالغ الدلالة، وكأنه يقول ان كتابة السير في خريف العمر هي بمثابة وداع للحياة تماما كما يكنس صاحب الدكان دكانه عندما ينصرف عنه الزبائن لكن ليس على طريقة صاحب المقهى الذي استشهد به سارتر في الوجود والعدم، وهو الذي يفرغ رأسه تماما مع خلو مقهاه من الزبائن، ان احصاء المسافات والجلوس عند المنحنى لاستذكار ما مضى هو تعبير عمّا قاله زهير بن ابي سلمى وهو ان من يعش ثمانين عاما يسأم تكاليف الحياة، فثمة بشر ينتشون باعادة انتاج اعمارهم بدربة ومهارة حاضرهم، وكأنهم يكتبون عمّا يشتهون حدوثه لكنه لم يحدث وهذا النمط من السيرة يمكن وصفه بالسيرة الاستدراكية، مقابل السّيرة المهنية التي يكتبها جنرالات وساسة ومهندسون واطباء ومحامون، ففي الآونة الاخيرة ظهرت موجة من كتابة المذكرات لاصحاب مهن اعتقدوا ان حياتهم هي قصة نجاح وتصلح نموذجا تربويا للاقتداء بها، وقد يكون هذا من حقهم شرط ان لا تندرج السيرة المهنية في خانة السيرة الذاتية.
* * * * * * *
كتابة السيرة تشبه الى حد ما مجازفة لاعب السيرك، فهو غير مسموح له ولو بخطأ واحد، ومن يتصور ان استخدامه لضمير المتكلم هو ما يجعل سيرته ذاتية قد يكتشف بعد فوات الأوان ان ذاته قد هربت وان اهم ما شاء قوله سقط سهوا، مقابل ذلك ثمة من تكون الذات لديهم محور العمل وجوهره رغم استخدامهم ضمير الغائب، وهناك دراسة قيمة لميشيل بوتور حول لعبة الضمائر واوهام استخدامها فهي احيانا مضللة واحيانا اخرى اشبه بطاقية الاخفاء.
السيرة الذاتية ابداع بعدة امتيازات وليس بامتياز ادبي واحد، لأنها بوتقة يذوب فيها السّرد وتقطير الخبرة اضافة الى البوح، لهذا عرف بعض الادباء بسيرهم اكثر من اعمالهم الاخرى مثل شاتوبريان وماري بشكرتسيف وجان جاك روسو اوغسطين، رغم ان القراءات ذات المقترب السايكولوجي لتلك المذكرات كانت صادمة في بعض الاحيان ومنها ما قيل عن مذكرات روسو فهو سلّط الاضاءة على جوانب حسّية وجسدية ذات ايحاءات جنسية ليحجبها عن مواقف اخرى، لأن الجرأة في عصره كما هي الآن في بعض الاماكن من عالمنا تنحصر في الاقتراب من خطين احمرين هما الجنس والدين، ولدينا في عالمنا العربي هناك سيرتان اشتهرتا ومنع الرقيب احداهما مذكرات الروائي والناشر الراحل سهيل ادريس ومذكرات الكاتب المغربي محمد شكري، ليس بسبب اختراق خطوط حمر سياسية او فكرية بل بسبب اعترافات ذات صلة بالجسد وحين يقال ان السيرة الذاتية في العالم العربي رغم وفرتها تبقى داجنة ومحاصرة بشروط النشر والرقابة فإن ذلك امرا واقعيا . فالسيرة الاعترافية تشترط مناخا اجتماعيا وسياسيا حرّا، وفي غياب الحرية يتحول الكاتب نفسه الى رقيب ويتولى اخصاء نصّه من الداخل، لهذا نلاحظ ان بعض الروائيين العرب يقدمون لاعمالهم باحترازات وقائية من طراز ان احداث الرواية ليس لها علاقة بالواقع او ان اي شبه بين شخوصها وبين شخوص من الواقع هو مجرد مصادفة، واذكر ان مستشرقا علق على مذكرات طه حسين في كتابه ‘ الايام ‘ قائلا ان المحذوف منها اضعاف المعلن، فأين هي الاحداث التي يعيشها طفل اعمى في قرية عربية لم تكن قد وصلتها الكهرباء وأين جسده في أيامه ؟
وهناك ملاحظة جديرة بالتأمل، هي ندرة السير الذاتية للنساء في العالم العربي لأن البوح يكون عقابه مضاعفا لاسباب جنسوية متعلقة بوضع المرأة، لهذا قد لا ابالغ اذا قلت ان انصراف عدد كبيرمن النساء العربيات لكتابة الرواية في العقد الاخير هو بمثابة سير ذاتية تحت أقنعة وحين نقرأ الكثير من تلك الروايات لا يتعذر علينا كشف السيرة الذاتية خصوصا في روايات تنطق شخصوها كلها باسم المؤلفة او نيابة عنها، مما يحوّلها الى نصّ غنائي يخلو من الدراما.
* * * * * * *
ماذا نسمي سيرة مركبة او مزدوجة كالتي كتبها هنري ميلر عن ارثر رامبو ؟ خصوصا عندما يعترف بأنه لو قرأ رامبو في صباه لما كتب شيئا، انه نمط من السيرة الاسقاطية تبدأ بتبادل الادوار وقد تنتهي الى الاندماج والتقمص، فالكاتب والمكتوب عنه يتحّدان، على الاقل في جذور التكوين وذكريات الصبا، ولعل هذا ما حدث بشكل او بآخر مع سارتر عندما كتب عن بودلير، وقال ان هذا الشاعر الداندي بخلاف البشر الاخرين، حاول ان يرى نفسه وهو ينظر الى الاشياء من حوله، لهذا لم تكن حياته الا قصة هذا الفشل، وسارتر نفسه حاول ذلك لأن مشكلته الوجودية هي في عدم قدرته على الاستغراق شأن الاخرين وحين قدّم في رواية الغثيان شخصية روكانتان الذي كرّس حياته لتعقّب تفاصيل سيرة رجل آخر انتهى الى الفشل، لأنه لا يستطيع ان يكون الا نفسه.
السيرة الاسقاطية هي التعبير عن الذات من خلال الآخرالذي يشبهها، وهناك عبارات وردت في تجربة جان روسلو وهو يترجم ادغار ألن بو تجسّد ذلك، منها ان عليك لكي تترجم الاخر ان تكونه، وان تلعن أباك نيابة عنه، واخيرا ان تأخذ عنه الحمولة كلها من المنظار والمعول حتى الذاكرة.
ما من مصطلح جائر في عموميته واتساعه كالسيرة الذاتية، فهو يشمل نصوصا شديدة التباين، ويخلط بين السيرة المعرفية كسيرة ابن سينا والسيرة الذاتية الخالصة كسيرة روسو وبين السيرة الاسقاطية، فقد نقرأ مثلا بين سطور ماركيز في سيرته عشت لأروي ما يعيننا على فهم محيطه الاجتماعي والمزاج السياسي السائد في عصره وكذلك في مذكرات بابلو نيرودا، لكن الجاذب في هذه السير هو الذات بحيث يمر كل شيء من خلالها ويصطبغ بلونها ويحمل نكهتها،بعكس سير أخرى يمكن وصفها بلا تردد بأنها منزوعة الذات، لأنها أشبه بالمرآة التي لا محتوى لها غير ما تعكسه !
خيري منصور عمود من اعمدة الثقافة في الوطن العربي … غزارة تحليله للواقع والماضي والمستقبل لا يجاريه فيه أحد