ما زال الكثير من االمحللينب يتناولون التجاذبات الدولية بذهنية القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهم في الحقيقة لا يجانبون الصواب عند الإقرار برجوع تقاليد الحرب الباردة بثوب جديد، والإقرار بنزعات الهيمنة لدى القوى الغربية والشرقية . لكن مفاهيم السيطرة والنفوذ تغيرت وتبلورت كثيرا خلال العقدين الأخيرين . فالتاريخ علّمنا أن أي كيان صاعد (إمبراطورية أو حلف) يسعى للتوسع والهيمنة انطلاقا من آليات عسكرية قهرية وكذلك آليات إيديولوجية قد تتخذ طابعا دينيا عقائديا أم عقلانيا وضعيا. ولعل الولايات المتحدة والغرب، يتخذان الإسلام السياسي وقيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان كذخائر إيديولوجية لتنميط الشعوب والسيطرة عليها. وما زالت عديد الشعوب والأنظمة الديكتاتورية والنصف ديكتاتورية أو شمولية لم تجد البديل الذي توقف به زحف الديمقراطية الغربية.
وربما يقول قائل أن الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان والحريات هي قيم رائعة ومهمة. لكن للأسف ما زال الوعي العام لدى عديد الشعوب لا يميز بين الديمقراطية والقيم الكونية التي تسوقها الولايات المتحدة والغرب كإيديولوجية تحمل في ظاهرها قيما جميلة كحقوق الإنسان وحقوق المرأة والحقوق الاجتماعية وحقوق الأقليات ومناهضة التعذيب، وتستبطن خفية قيم الليبرالية المتطرفة المستوردة، وآليات لتثبيط قدرة الشعوب على النهوض الذاتي والتنمية الشاملة (وهذه هي الديمقراطية التي تسعى إلى تسويقها تنظيمات المجتمع المدني الممولة من الخارج في عديد البلدان).. وبين الديمقراطية كمفهوم إجتماعي تاريخي يحمل في ذاته آثار تطورات وصراعات ومناظرات اجتماعية.
التاريخ والقيم يصنعها القوي والمهيمن، هكذا علمنا التاريخ. فاليابان تقريبا هي البلد الوحيد الذي تأقلم مع هذه القيم الزاحفة ونجح في ترويضها وجعلها في خدمته. أما الصين فما زالت راسية فوق بركان نائم قد تنجح الولايات المتحدة والغرب في تحريكه. ولعل الصين نجحت بفضل صعودها ونموها الاقتصادي الكبير في الصمود، لكن ما زالت أمامها رهانات صعبة جدا لترويض هذا الغول الإيديولوجي الزاحف المتمثل في الديمقراطية الغربية التي تحمل بين طياتها اختراقا للنظم الاقتصادية والثقافية وتقاليد الاستهلاك والتطور الاجتماعي. ونفس الحالة تقريبا تعيشها روسيا التي تتمتع بنوع من المناعة مقارنة بالصين باعتبار وجود نصف ديمقراطية مدعومة بنزعة قومية اجتماعية قوية، نوعا ما، تعود إلى تقاليد روسيا القيصرية.
العديد من شعوب العالم تنتظرها رهينة صعبة حتى تبلور ديمقرطتها إنطلاقا من ذواتها دون الحاجة إلى الديمقرطة الغربية الأيديولوجية التي تساهم في تثبيط مقومات النهضة والإبداع لدى الشعوب.
الديمقراطية الغربية هي المهيمنة حاليا، وقد نجحت هذه الإيديولوجية في تحقيق إنتصارات واختراقات مهمة في أروربا الشرقية وبدرجة أقل إفريقيا وأمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا. مقابل أفول نجم الإيديولوجية المشتقة من الإشتراكوية وبالشبه ممانعةب والتي كلما ظهرت في بلد إلا وتماهت معها الصين وروسيا وبدرجة أقل الهند وإيران… العديد من الكيانات كإيران والسعودية تسير نحو إيقاف تصدير الإيديولوجيات العقائدية التي كانت تعتبرها من شروط بقائها كأنظمة وقوميات متماسكة، وإن كان ذلك التماسك صوريا. ولعل هذه الكيانات مطالبة بإحداث تغييرات داخلية جذرية للحفاظ على كيانها بعيدا عن منطق تصدير الأزمات والتصدير الهستيري للإيديولوجيات البدائية. ولعل النظام التركي (العثماني ذ الجديد) يعيش نفس الازمة بعد أن راهن على تسويق أوهام الخلافة العثمانية والتلاعب بالوجدان الطفولي لعديد الشعوب االإسلاميةب التي تعيش حالة اختناق تجعلها متعطشة لأمة إسلامية إفتراضية موهومة تحقق من خلالها كياناتها. أما الصهيونية فلقد دخلت في أزمة بنيوية، فبعد أن أصبحت داعما للمشروع الحضاري الغربي وسدا منيعا لصيانة المصالح الغربية، أصبحت تعيق الواقع الكوني الجديد الذي يتبلور رويدا رويدا باعتبارها تحولت إلى عائق لعدديد المصالح المتعلقة بالدول والتكتلات العالمية ورؤوس الأموال الزاحفة. وهذا ما جعل الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي يمارسان نوعا من الضغوط الناعمة على إسرائيل من أجل حل القضية الفلسطينية في أقرب وقت ممكن، وذلك من أجل الترويض الناعم لإيران والمد الشيعي، والقضاء على الذرائع التي تجعل العديد من الدول العربية-الإسلامية والشرق أوسطية تجنح نحو الشرق، كذلك للتخفيف من حدة الزحف الجهادي الذي يزعج أمنيا واقتصاديا واستراتيجيا مصالح رأس المال والتكتلات العالمية الزاحفة.
هذه الديمقراطية الأيديولوجية الغربية قد تنقلب على صانعيها ومروجيها، وربما سيشهد العالم قريبا تغيرات جذرية تؤدي إلى تغيير بنية النظام الدولي وبلورة قيم دولية جديدة ستكون فاعلة في المستقبل. فالأزمة المتعلقة بشبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا أخيرا قد تكون مجرد زوبعة في فنجان أمام الواقع الكوني الجديد وعديد الاعتبارات الموضوعية التي نذكر منها: (تنامي ظاهرة الإرهاب؛ تخفيض اعتماد الولايات المتحدة على النفط الخليجي مقابل الزحف نحو آسيا الوسطى وجنوب شرقها؛ اعتماد الصين على نفط السعودية والإمارات؛ تعمّق المصالح المتشابكة بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة والصين وروسيا من جهة ثانية في مجالات حيوية كالتجارة والطاقة والاستثمار والمالية والأمن العالمي؛ بروز روسيا والصين ومجموعة دول البريكس كقوى فاعلة لها مكانتها العالمية وقدرتها على التأثير في السياسات الغربية والأمريكية؛ الأزمات المالية والإقتصادية التي عاشتها وتعيشها الولايات المتحدة والغرب؛ ظهور الحاجة إلى تغيير ديمقراطي مُمنهج في عديد البلدان العربية والإسلامية نظرا لفقدان فاعلية الديكتاتوريات القائمة بها؛ تغيّر الرأي العام الشعبي في الغرب بعد أن أصبح رافضا للحروب والتدخل المنهجي في شؤون الشعوب الأخرى حتى ولو كان ذلك بطريقة ناعمة؛ بروز الحركات المعادية للصهيونية وتنامي دور الحركات اليسارية في جنوب أمريكا ؛ الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي والعديد من الدوائر الأكاديمية على إسرائيل من أجل التعجيل بحل القضية الفلسطينية…).
النظام الدولي سيتبلور ولن نعود إلى القطبية الثنائية بمعناها الكلاسيكي بمضامين الحرب الباردة ، ولن نعود كذلك لنظام التعددية القطبية لما قبل الحروب العالمية. قد تعود هذه الأشكال من القطبية بنمط معتدل جدا ثم تسير نحو الاضمحلال، وقد يمر العالم مباشرة إلى الكونية والليبرالية المطلقة في العلاقات الدولية من سياسة واقتصاد، مقابل اضمحلال تدريجي للعبة المحاور والتكتلات بمعناها الكلاسيكي. وقد يبدو هذا مزعجا لأصحاب الميولات االيسارية الثوريةب لكنه قد يكون إيجابيا لإيجاد ديناميات ومفاهيم جديدة لكفاح الشعوب ضد الرأسمالية والليبرالية المتوحشة والأنماط الاقتصادية التي تقوم على التفقير والتجويع، باعتبار أن الأنظمة سواء القائمة في البلدان المتقدمة أو في ما تسمى بلدان العالم الثالث لن يكون بمقدورها الحصول على امشروعيةب مستمدة من المعايير والقيم الحالية أو السابقة والتي تقوم على إيجاد عدو خارجي سواء إيديولوجي أو حضاري أو اقتصادي أو أمني. فالشعوب ستكون قادرة على أن تفرز أنظمة تخدم الإنسان بعيدا عن الهوس بوجود خطر عقائدي أو إيديولوجي أو غير ذلك يهدد كيانها العام.
‘ كاتب من تونس