ليالي الأرق الطويلة لزكريا عبد الغني: انفجار الصمت
محمد سمير عبد السلام ليالي الأرق الطويلة لزكريا عبد الغني: انفجار الصمتتعد تجربة زكريا عبد الغني القصصية من أهم التجارب الطليعية المصرية في السنوات الأخيرة، لأنها تلامس جذرية تحول السارد واختفائه فيما يجاوز طبيعته السردية ومعرفته الخاصة، نحو ما هو غائب عن الاطار السردي، ويسعي الأخير اليه، وذلك بحكم الانفلات المستمر لعناصره من هوية النسق أو معرفة السارد نفسها ولو كانت وصفية. ان العلامات في نصوص زكريا عبد الغني تستنزف وجود المدرك من خلال انفجارها التخيلي النصي ذي البعد الاجتماعي الذي يحور واقع التلقي نحو ما هو جمالي في اطاره الحقيقي فتتوالي نوازع الخروج من أحادية المدلول الثقافي الي لذة اللعب وانزلاقاته الدلالية الكامنة في نسيج الخطاب الواقعي باكتشاف وجهه الآخر، مما يمنح المدرك / السارد أو المتلقي حضورا يشبه الطلب الدائم للأثر المنفلت كمعادل لثورة الوجود الصامت للذات علي حدودها التكوينية ومشكل للوجود الآخر في التحامه اللا واعي بالنص، بعيدا عن الوظيفة الاخبارية الأولي للشكل السردي، هكذا تؤسس مثل هذه النصوص لما يحمله اختفاء مركزية القص من انتاجية ابداعية تتجاوز الخطاب القصصي من خلال عمليات التحول الوجودي / العلاماتي في آن. لقد صار المدرك طيفا ذا صوت غائب؛ ليفسح فضاء لمخلوقاته ؛ كي تحتفل بسقوط هويتها التمثيلية حين اتخذت صوت السارد الحقيقي موقعا لها. في نص (مدينة الحشرات المزعجة) ضمن مجموعة (ليالي الأرق الطويلة) ـ دار الكتب العلمية ـ مصر 2005 ـ يرتبط ظهور الحشرات بالمكان في وعي السارد، فيشعر بأثرها القوي في البداية دون أن يراها من يحيطون به، فيظنون أنه مجنون، وتأخذ الحشرات في هذه المرحلة التكوينية وظيفة معرفية ذات حضور ملتبس فهي تسائل عملية الادراك بتحريف الانعكاس من داخله، فمنظور الراوي مرآوي الطابع في رصد الحشرات، لكنه هنا يعكس الفراغ وما فيه من تأثير ملموس علي الذات رغم اختفاء وظائفه؛ اذ تعمل فيه الحشرات كبديل للمنظور نفسه.. للفراغ كطاقة تحاكي الذات، رغم محاولات الراوي المتكررة التخلص منها، انها تحدد هويته بمحو منظوره واللعب بسياقه الاجتماعي كأنما هي انتحار غير واع للمنظور نحو لاعضوية تصميمه وفق عمليات التدمير الفرويدي. وفي مرحلة ثانية تتكاثر الحشرات بصورة مفرطة ثم تتبلور في تكوين يشبه عين الانسان، انها تختزل الوجود فيما تم تحريفه وهو الادراك خارج المدرك نفسه. لقد أفلت التحول الوظيفي للحشرات الممثلة لوجود السارد من هيمنة الوعي والحالة العضوية برمتها فيما يشبه الانفجار العلاماتي ضمن واقع السارد والمتلقي ليصير تاريخهما مضادا للانعكاس الساذج في اتجاه فاعلية الاختفاء، ويذكرنا هذا باغواء الفراغ فيما بعد الحداثة عند بودريار في كتابه (simulacra and simulation 1988)، حيث ينجذب الواقع الي طلب المحاكاة فتسقط الأخيرة عند التباسها بعدم وضوح الواقع نفسه في مقاومته لهيمنة الصور التي تضعها الرأسمالية المتأخرة ضمن منطق السلعة الوظيفي .ان الكتابة عند زكريا عبد الغني تؤسس لانفجار الصمت في لحظات التوقف التي تعرقل مسار المدنية وضخامتها القاسية وواقعيتها الانعزالية عن لعب العلامات ضمن عوالم الصمت الرهيبة وما تحمله من قداسة افتراضية للتحول وممرات استثنائية للشخوص وفق اندماجهم الجزئي بالعناصر الفريدة. هل هي كتابة الاستنزاف المتجاوزة لجماليات الحداثة عند (جون بارث) حيث تصير اعادة الانتاج استنزافا للتاريخ نفسه في عوالمه الافتراضية؟ (راجع جون بارث / أدب الاستنزاف / ضمن الرواية اليوم / ت أحمد عمر شاهين / هيئة الكتاب 1996 ص 64 وما بعدها).وفي نص (مدينة نعم ومدينة لا) يبدأ السارد نصه بخطاب حكائي، فيه تجريد رمزي لتاريخ القهر بما يحمله من سخرية تخيلية من عبثية اللا معقول الكامنة في ثقافات الهيمنة، هكذا يحور النص تلك الثقافات عن طريق ادخالها في عنصر ثقافي طارئ وفق تعبير رايموند ويليامز، وهو التأويل السردي الساخر للتاريخ، فالملك في النص يقرر أن الفيل يبيض والحمام يجب أن يطير بجناح واحد فيوافقه الناس لأن من يقول لا ينقطع لسانه حتي يظهر بطل اشكالي لم يستجب جسده للحرق أو القطع فتبعه الناس وأسسوا مدينة لا بدلا من نعم. لقد أول السارد لامعقولية مدينة نعم من خلال انفجار علاماتي وتاريخي لا معقول وصامت من حيث التكوين لبطل اشكالي نبع من تداعيات صورة السلطان نفسها التي يحاربها. هل هو انتحار القوة ضمن لامعقوليتها الخاصة؟ أم أنها ثورة شكلية دائرية لجنون مطلق يطارد قوة تستهلك ذاتها في مرحلة التكوين؟ أم أنها الأوهام المصاحبة للسرديات الكبري التي قاومها ليوتار وقد استحالت الي موقع انفجاري لصمت اللا معقول وانفجاره الجذري؟وفي نص (طائر ينقر رأسي) يعايش البطل / المتكلم عملية تحول عبثية، غير مبررة تذكرنا بالمسخ عند كافكا، لكنها هنا ذات بعد ظاهراتي واضح؛ اذ يأتي الخيال في هذه الكتابة كعنصر يتحدي موضوعية الحكم فينتقل الخطاب بوضوح من التحليل الي الوصف، فعقب تضخم جسده، وامتلائه مثل الفيل يشعر أن طائرا أبيض ينقر رأسه من الداخل، وعند هذه النقطة يقاوم الوصف معرفته في اتجاه رغبة لا واعية في الطيران خارج حدود الوعي نفسه، لقد ازدوجت أخيلة الامتلاء بتفريغ الكائن من مضمونه لصالح التوحد بالهواء كمادة للوجود الشعري المتبلور في هلاوس التضخم، ولعل هذا التناقض يمنح الوجود التباسا يدعو الي صمت رمادي محترق يقاوم التحليل الطبي بالايغال في جذرية الفراغ.ويكثف السارد مساره الاجتماعي في نزعة تعبيرية للطريق المظلم في نص (أعواد ثقاب لا تشتعل طويلا) حيث تتكاثر أعواد الثقاب التي يشعلها السارد في حركة مناظرة لتكاثر الأفواه الفاغرة التي تطفئ العود فور اشتعاله. ان الانفتاح المجرد للأفواه يختزل التكوين في وظيفته كأنه ينتحر ضمن ارادته محو الآخر. لقد صار النفخ ديناميكا للظلام؛ لطلبه اللاواعي حرارة الاشتعال المتكررة المناهضة لسيادة الظلمة فضلا عن طبيعته المتلاشية المفرغة مما وراء النفخ. ان الحركة الهوائية تصارع النار لتنتج قطع الظلمة المجردة التي توازي شكلية فعل الحياة نفسه في هذه الكتابة، اذ انه يتمثل في خطوة واحدة نحو الفراغ. لكنها نارية ومظلمة في آن.وفي نص (مسرح العرائس) يصيب البطل الضجر فيندفع باتجاه مسرح العرائس، وهناك يجد رجلا من خشب علي المسرح المظلم، ووسط ضجيج المشاهدين تضيء الأنوار فيتبين البطل أن عيونهم كانت من الزجاج وأجسادهم من الخشب، وهنا يعلو صخب الفانتازيا وانفلاتها الي الواقع نفسه مما يعزز التحول النصي لتاريخ البطل ووجوده حين يجد زوجته من خشب وكذلك بائع الكبدة وماسح الأحذية حتي وضعت زوجته طفلا من لحم ودم فقام الأطباء بتحويله الي عروسة خشبية. لقد اشتعل المسرح خارج نطاق العرض ليؤول الوجود بوصفه مادة ذات طبيعة انتشارية تقبل الزيادة غير الواعية للعنصر الفريد وهو النار كحركة تصويرية تنتهك المسرح خارج حدوده أو المنطق السردي حين يخرج من نطاق السارد الي كتابة وجوده الخاص في موقع العلامة حين تنفجر بفعل نيران العرائس الخشبية الساخرة من وعي السارد من داخله ؛ فهو مدرك لتحوله واختفائه التمثيلي وراء العروسة الحقيقية. وفي نص (رأس العبد) يستخدم السارد علامة (رأس العبد) بمعناها العرفي في تنظيف الأسقف، وقد سميت بذلك لاتساخ القماشة المكورة أعلي العصا مثل رأس العبد، لكن العلامة تنفجر في صمت مضاد لمنطق العبودية الزائف في الاسم حين يستخدمها البطل في ارسال الرسائل لجارته التي أحبها حتي يفتضح أمره ويمنعه أبوه ثم بعد مدة يحدث جارته في صمت مشيرا الي رأسه للدلالة علي رأس العبد وكذلك تفعل هي في الحديث الصامت. لقد تشكلت رأس العصا علي نحو مجازي ابتداء في وعي ولا وعي المجموع مما يعزز وجود التشبيه فيما هو واقعي أصيل، ذلك التشبيه المحرر لغرائز البطل من داخل شبح العبودية الزائف. ما الرأس؟ هل هو ساعي البريد أم شكلية تحول الدماغ الي ما يجاوزها؟ أم أداة النظافة أم مفتاح العلاقة السرية الخفي؟ يبدو أن احتلاله لرأس البطل العاشق يحرر العبد ويطلقه ثائرا في المجتمع.وفي نص (القطار يجيء مرة واحدة) يجرد العجوز القطار من وظيفته / بلوغ غاية ما، فهو ينتظر القطار ويرفضه، كأنما يرفض الغاية بحد ذاتها. وان اختفاءه بعد ركوب القطار لمرة واحدة وأخيرة يدل علي استبدال الغاية بالغياب المناهض لها، أما القطار فقد أدي وظيفته عندما تجرد من مركزية الايصال نحو جذرية التلاشي .وفي نص (عسكري المرور) نلمح تداخل الثقافات والتقنيات المصاحبة للفنون وفيها من تناقض في القرن العشرين وفق أمبرتو اكو فيعمد السارد الي تدليس هوية العسكري بظاهرية الرجل المتقشف الذي يدير حركة المرور بكلمات مثل حي أو مدد، فتحدث الوقفة كأنما هي تمثيل لسخرية السارد من المسار الواقعي الآلي وفق تناقضاته ؛ اذ تحول الي واقع فائق بفعل العوالم القدسية للمتقشف التي تجمع بين التصوف الشعبي ووقفات النفري العالية ولذة النص في صنع التخييل الغريزي ضمن حدود المجتمع.ويواصل السارد أحلام الطيران من داخل ذوبان المادة الحية في منطق الصورة في نص (ميدان القتال) فالتمثال يصير بفعل السرد رجلا ذا هيبة يراود أخيلة المارة والفتيات حتي يختفي بعد ملامسة الطائر له. لقد تجاوزت ديناميكية السرد حدودها عند زكريا عبد الغني فتمثلها التاريخ من خلال روايات الناس الوثائقية عن طيران التمثال في الفراغ. انها أخيلة الهواء المنفلتة مرة أخري تستشرف اللا عضوي من خلال شفافية الطائر وتحويل صمت التمثال الي انفجار يستمر في مساءلة ما هو ظاهر في الوجود بما فيه من نوازع نحو الطيران والاختفاء المجازي وقد وضع كل منهما في مواجهة الآخر في فضاء جذاب للمعارضة. كاتب من مصر0