تعتبر القرارات التي أعلنها الرئيس السوداني عمر حسن البشير تطورا مهما في السياسة السودانية، ولا شك أن هذه القرارات ستقدم نموذجا لسائر الدول العربية التي لديها أنظمة مشابهة في كيفية التحرك نحو حل النزاعات والتوصل إلى صيغة وطنية يرضى عنها الجميع، ولا شك أن أهمية قرارات الرئيس السوداني لا تنبع فقط من كونها تصدر من رأس الدولة بل أيضا من الطبيعة التي عرف بها السودانيون والتي لا تقبل المراوغة في مثل هذه الأمور .
وكان الرئيس السوداني قد أصدر سلسلة من القرارات استهدف بها بدء الحوار الوطني من أجل التوصل إلى صيغة سياسية تدار بها البلاد وتكون مقبولة لدى الجميع، وقد أعلن الرئيس السوداني هذه القرارات في ملتقى الأحزاب السياسية وقد اعتبرها خريطة طريق لمستقبل البلاد.
وتضمنت توجيهات الرئيس في هذه القرارات تمكين جميع الأحزاب السياسية في السودان من ممارسة دورها دون قيود أو حجر من أنظمة الدولة، كما تضمنت فسح المجال أمام الحرية الإعلامية الشاملة حتى تقوم وسائل الإعلام بدورها في دعم الحوار الوطني الشامل في إطار القانون ومستلزمات الآداب العامة .
ولعل من أهم القرارات التي أعلنها الرئيس السوداني إطلاق سراح جميع الموقوفين لأسباب سياسية إلا من ثبت أنهم قاموا بأعمال جنائية، وتعهد الرئيس بإعطاء الحركات المسلحة التي تقاتل في الأقاليم الحرية الكاملة في المشاركة في الحوار الوطني، ولها الحق في الرجوع إذا أرادت، وقال الرئيس السوداني أنه يريد من كل القرارات التي أصدرها أن تكون مقدمة لمؤتمر الحوار الوطني العام الذي ستكون نتائجه هي خريطة الطريق التي يسير عليها جميع أفراد الوطن، وقال الرئيس السوداني في كلمته التي ألقاها في قاعة الصداقة بالخرطوم إن الاجتماع الذي دعا إليه سائر الأحزاب هو الخطوة الأولى في تدعيم الحوار الوطني الذي سيحقق السلام في دارفور والنيل الأزرق وجنوب ‘كردفان’، وقال إن بلاده ستتجه نحو تدعيم العلاقات السياسية والاقتصادية مع دولة جنوب السودان، ودعا الرئيس السوداني من سماهم بالأحزاب المترددة أن تسمو فوق العصبية الحزبية والجهوية والطموحات الفردية بالتركيز على مصالح الوطن العليا .
وعلى الرغم مما اشتملت عليه نداءات الرئيس السوداني من جوانب إيجابية فإن بعض أحزاب المعارضة رفضت الاستجابة الفورية لهذه النداءات واضعة بعض المطالب التي كان يمكن أن تتحقق من خلال دعوة الحوار في حديث الرئيس عمر البشير، فقد أعلنت ما تسمي نفسها قوى الإجماع الوطني إنه لا حوار مع النظام إلا بعد أن يستوفي بعض الشروط والمتطلبات اللازمة، وطالبت هذه القوى بضرورة أن تلغي الحكومة القوانين المقيدة للحريات كافة، ووقف الحروب في سائر الأقاليم ومعالجة تداعياتها الإنسانية، وإطلاق سراح سائر المسجونين لأسباب سياسية، وأن يقبل النظام بالدخول في مرحلة انتقالية يكون هدفها النهائي تغيير النظام، وإذا نظرنا إلى سائر ما دعت إليه قوى الإجماع الوطني وجدنا أنها متضمنة في خطاب البشير إلا إذا كانت هذه القوى لا تثق في الخطاب أصلا، وبالتالي لا مجال هناك للتفاهم بين النظام وقوى المعارضة.
ولا تكتفي قوى المعارضة بإثارة نقاط موضوعية حول مقترحات الرئيس بل هي تشكك أصلا في ما ورد في حديثه ، ويظهر ذلك جليا في موقف القيادي في حزب المؤتمر الشعبي د.على الحاج، الذي أظهر شكوكا في التوصل إلى نتائج إيجابية من خلال المشاركة في الحوار الوطني.
وقد طالب الحزب بضرورة أن يوجه الرئيس الدعوة لمتمردي الحركات والجبهة الثورية دون أن يطالبهم بإلقاء السلاح.
وقد كشف القيادي في حزب المؤتمر الشعبي د.على الحاج عن وجود علاقات بين حزبهم وقيادات من الجبهة الثورية مثل مالك عقار وياسر عرمان مؤكد أن لقاءات معهما تمت في باريس في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وعلى الرغم من هذا الموقف نرى أن موقف رئيس حزب المؤتمر الشعبي الدكتور حسن الترابي مختلف لأنه وصف ما قاله الرئيس البشير بالبشريات وطالبه بأن يكون لجنة مستقلة للنظر في الأوضاع الاقتصادية والحريات العامة وطرق حكم البلاد.
ودعا ممثل حزب الاتحادي الديمقراطي عبد الرحمن سعيد إلى تشكيل حكومة قومية تعد لانتخابات عامة تراقبها جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، وتعني دعوة الاتحادي الديمقراطي تفكيك النظام والاستعداد لمرحلة جديدة من الحكم .
ومن جانبه قال غازي صلاح الدين الذي كان من أعمدة نظام البشير وانشق عليه إن الطريق الوحيد لجعل القوى المعارضة للنظام تشارك في الحوار الوطني هي الاستجابة لمطالبهم.
والسؤال المهم هو هل كل ما يحتاج إليه الوضع في السودان هو الدخول في عملية حوار؟ نحن لا نشك في أن الحوار شيء مطلوب في جميع الأحوال ولكن المسألة هنا لا تتعلق بالتفاهم مع زعامات تتطلع إلى الحكم أو المشاركة فيه، بل تتعلق بمستقبل البلد كله وحاجته إلى وضع نظام حديث، وأذكر أن صديقا كان يحدثني عن الوضع الاقتصادي في السودان، وقال لي لماذا يطبق السودان حتى الآن حظرا على حركة تنقل الأموال مع وجود أكثر من مليون شخص يعملون في خارج البلاد، لا شك من وجهة نظره أن فرض حظر على إدخال وإخراج العملات الأجنبية يؤثر بصورة سلبية على اقتصاد البلاد، ومثل هذا الحظر يفهم عندما تكون الأموال المحولة هي من خزينة الدولة ولكن عندما تكون حركة الأموال هي من ممتلكات ومدخرات الأفراد فليس هناك منطق في فرض مثل هذا الحظر ولا شك أن فتح المجال أمام حركة العملات سوف يحول دون هجرة الأموال أو يقلصها، كما سيفتح المجال واسعا أمام تدفق الأموال إلى داخل البلاد وذلك ما سينعش الحركة الاقتصادية في داخل السودان .
ولا شك أن هناك وجهة نظر تستحق النظر في ما قاله هذا الصديق ، ولا يقتصر الأمر على حركة الأموال فقط بل يتجاوز ذلك إلى كثير من أمور السياسة السودانية، وقد شهدنا في الأيام الأخيرة زيارة الرئيس سلفا كير رئيس جمهورية جنوب السودان إلى الخرطوم، وكان سلفا كير منذ وقت قريب نائب رئيس دولة السودان، وهو يأتي كرئيس دولة لم يكن هناك منطق لانفصالها، وهو يبحث الآن طرق تفعيل ما يسميه الاتفاقات بين السودان ودولة جنوب السودان دون التوقف للتساؤل أصلا عن الأسباب التي جعلت جنوب السودان ينفصل وما يمكن أن يحققه بهذا الانفصال، وكان من الممكن أن يحقق كل ما يريده من خلال الحكم الفدراليٍ.
ومهما يكن من أمر فإن كثيرا من قضايا السودان بحاجة إلى إعادة نظر لاتخاذ موقف سليم تجاهها، والمتوقع أن تسير دعوة الرئيس السوداني في هذا الاتجاه، أما إذا كان هدف ما دعا إليه الرئيس السوداني هو مجرد دعوة للانضمام إلى الحكم بصيغته الحالية أو التفاهم معه فيعني ذلك أن يستمر الوضع الراهن ربع قرن آخر .
‘ كاتب من السودان