اخر طرق الاحتجاج غرابة في تونس، هي ما اقدم عليه صاحب مطعم بضواحي العاصمة قبل ايام من رفع للعلم الاسرائيلي فوق سطح المحل، ليبادر بعض الاهالي الى منعه قبل ان تتدخل اجهزة الشرطة لتطويق الموقف. المبرر المقدم كان التعبيرعن رفض قرار اداري يقضي بهدم جزء من المطعم. اما ما اصدره القضاء حول واقعة الاحتجاج من احكام، فقد لا يقل بدوره غرابة. اذ تم الحكم على الفاعل بالسجن بتهم عديدة، كالاعتداء بالقول على موظف عمومي، ودخول مؤسسة رسمية دون ارادة المشرفين عليها، والبراءة في نهاية المطاف من مسألة رفع العلم الاسرائيلي امام العموم ‘لانعدام الاركان القانونية والمادية للفعل المنسوب’ بحسب ما اوردته مصادر صحافية مختلفة.
لا يعدم التونسيون منذ الهروب الغامض للرئيس المخلوع بن علي وسيلة للاحتجاج على كل شيء وفي كل وقت، ودون سابق انذار او تنبيه، ولم يعد مستبعدا ان تتحول مشادة بسيطة بين شخصين في الطريق العام الى اعتصام مفتوح تعطل فيه المرافق ومصالح الناس لمجرد ان المحتج يرفع مطالب عاجلة لا تحتمل التأخير او التسويف، وينبغي على المسؤولين تلبيتها على الفور بلا تردد ولا نقاش زائد او مماطلة.
القصص كثيرة وتكاد تكون يومية، وغالبا ما تصيب سامعها بنوبة ضحك هستيرية، سرعان ما تتحول في ما بعد الى شعور بالحسرة والألم الشديد على ذلك الانحراف الواضح في استخدام الحرية بطرق واشكال سادية، تسبب لها بالغ الضرر والخطورة وتدمر قيمها ومعانيها الاصلية، لتتحول من نعمة الى نقمة. اما الاشكال الحقيقي فهو ان صدمة الديمقراطية التي تحدثنا عنا اكثر من مرة، قادت الكثيرين في تونس الى استنزاف مفرط ومغلوط للحق بصورة حجبت تماما في المقابل كل واجب او التزام.
والواضح ان حالة الخمول التي وصلت مستويات عالية وقياسية واصابت العقول بالعطالة والركود، قد تسربت مثل الوباء القاتل الى خلايا ومفاصل البلد لتوقعها في حالة نوم سريري مطول. وما فعله صراع السياسة وتنازع المصالح في الداخل والخارج، هو انه ادار آلة الاعلام القديمة والعقيمة بالكامل نحو عدو واحد دون سواه، هو ما اصطلح عليه بالارهاب ليكتشف التونسيون بعد الهدوء النسبي لصخب الحرب المفتوحة بين الحكومة السابقة ومعارضيها بفعل التوافق الهش والهجين، ان كل ما تبقى امامهم هو مواجهة اخرى لخلايا ارهابية نائمة تهدد أمنهم وحياتهم قبل حرياتهم وديمقراطيتهم.
الخلايا المقصودة هي تلك التي تتسابق الصحف التونسية هذه الايام للاعلان عن اعدادها بشكل قد لا يختلف كثيرا عما يحصل عادة داخل المزادات. فهي اكثر من اربعمئة خلية ارهابية نائمة، بحسب ما تنشره البعض منها، وعددها لا يتجاوز الثلاثمئة خلية بحسب ما تكتب اخرى. وفي مطلق الاحوال هناك رسالة وحيدة يراد توجيهها للتونسيين، وهي التي جاءت على لسان مسؤول باحدى النقابات الامنية في حديثه لصحيفة يومية من ‘ان الارهابيين تغلغلوا في صفوف الطلبة والاساتذة والعاطلين عن العمل وكل فئات المجتمع فلم نعد نقدر على حصر اماكن تواجدهم’. وسط الذعر الذي يخطط اكثر من طرف ان لا تخرج تونس من دوائره المجنونة، لا يلتفت معظم التونسيين الى صوت العقل والحكمة، وتبدو الدعوات المكررة الى مزيد الجهد والعمل مجرد صرخة في واد سحيق، لا يجد المحتجون وقتا لسماعها. الحجة القديمة كانت دوما هي ان مثل ذلك الخطاب سوف يصب حتما في صالح الائتلاف الحاكم وعلى رأسه حركة النهضة الاسلامية، وان دعوات التهدئة والانصراف الى الانتاج سوف تعطي مبررا قويا لاستمرار هيمنة الاسلاميين على السلطة. اما الان وقد غادر هؤلاء الحكومة فلا يبدو ان تلك التصورات قد زالت، رغم كل الخطابات الجميلة التي يرددها الجميع في تونس حول مصلحة البلد وصعوبة اوضاعه الاقتصادية.
مثل ذلك التفكير يفوت فرصة الانتباه الى الخلايا النائمة الحقيقية الكامنة في العقول والضمائر، والتي لم تستطع بعد ان تتخلص بيسر وسهولة من رواسب الاستبداد وتفهم ان الديمقراطية الجنينية لا تمطر ذهبا ولا فضة، وانها اكثر مشقة وعناء من هدوء الديكتاتورية واستقرارها الظاهر. مثل تلك الخلايا التي تنشط فقط بضجيج الاحتجاجات وصخبها، لا تستسلم لغفوتها الطويلة فحسب، بل تحول المطالب الحقيقية المشروعة الى سراب بعيد المنال بالخلط المتعمد والمقصود بينها وبين مطالب مغشوشة واصطناعية لا صلة لها بقضايا الناس والبلد.
ويبدو جليا ان ما تنخرط فيه الان معظم الاحزاب من موجة بكاء حار على ضياع الثورة او انتهائها عقب اطلاق محكمة الاستئناف العسكرية سراح قيادات امنية مورطة في قتل الشهداء واصابة الجرحى قبل ثلاث سنوات غداة الاطاحة ببن علي، هي تأكيد جديد على ان تلك الخلايا ما تزال مستمرة في نومتها المزمنة والمعهودة. ومن اجل كل ذلك يصبح التساؤل عن سر الاحتجاجات الغريبة او حتى الاحكام القضائية الاشد غرابة بلا معنى ولا فائدة.
‘ كاتب تونسي
الأنانية التي تكاد تدمر شعب بأكمله، المقال أظهر بعض الأمثلة التي تبرز هذا الوباء الذي ينخر مجتمعنا وخاصة من طرف الذين يحاولون المحافظة على مكاسبهم قبل الثورة وقد ساهم المواطن البسيط في هذا الشلل العام لإنعدام روح المواطنة وما تتضمنه من حقوق وواجبات وخاصة عدم فهمه للتحديات التي أتت بها الثورة. الداء الذي ينخر بلدنا تونس واضح للعيان ألا وهو الأنانية المفرطة من جميع الأطراف. خلايا نائمة ولكنها تتحرك وتنخر مجتمعنا.شكرا أخ نزارعلى هذا المقال.
الإتحاد العام للشغب هو سبب نكسة تونس ماضي ..حاضرا ومستقبلا….هذه العصابة ستغرق البلاد للأبد