أكتبي عن الأحياء. اكتبي عن تجاويف القلب. عن حركة خلايا الشرايين. عن تلك العوالم الموغلة في البعد.النازلة إلى أعماق لا قاع لها.ما أسهل أن تكتبي عن الموتى؟ ما أفظع أن تكتبي عن الموتى (الباقي: ص 18)
إن رواية الباقي (دار الجنوب، عيون المعاصرة، تونس 2013) للروائية والأكاديمية التونسية آمنة الرميلي الوسلاتي تقوم على سلسلة من التوترات التي تدفع بالنص إلى التمادي في المستحيل وكشف خفايا النفس لحظة انكسارها، ودفع القارئ إلى الانخراط فيه لأن ما تقوله الكلمات عن زمن يتهاوى يعنيه بقوة. الهزائم السياسية أقل ضررا من الهزائم الداخلية للأفراد والجماعات، في عالم عربي عاش كل الهزات العنيفة من حروب واستعمارات وأنظمة دكتاتورية، لكنه لم يستفد إلا قليلا.
قد يبدو من أول وهلة أن الرواية تشتغل على الصوت الأحادي الذي يحدد مسارات النص وإيقاعه، لكن بسرعة يتبدى ذلك داخل النسيج السردي الذي تتقاسمه بوليفونية مترسخة، الأمر الذي يكشف في النهاية عن موزاييك سياسي يتقاسمه اليساريون الشيوعيون والإخوان المسلمون والبوليس السري الذي يراقب كل شيء في الجامعة وفي المؤسسات، ويحرك من يريد تحريكه بحسب مقتضيات الحال. يجب أن أشير هنا إلى أن الرواية كتبت بين 2003-2006 مما يعطيها صفة التنبؤ أو القــــراءة القبلية الصارمة للواقع التونسي حيث لا أبطال إلا واجهة كاذبة، وصراعات داخلية وهزائم صغيرة تحولت إلى خيبة كبرى وعلامات عن طوفان كان يتربي في السر. ليس الأبطال في هذه الرواية إلا شخصيات مضادة لكياناتها Des anti-h’ros لأنها تعرض في النهاية قهرا كبيرا وخوفا مضمرا تجاه آلة طاحنة.
ولهذا لم تعد اللغة المعتادة كافية لتصوير هذه الحرائق الداخلية. وحدها سلمى تعرف السر لأنها معنية به. تفاجئ الكاتبة من قبرها وتغرقها بأوراقها، وتشتمها لأنها لا تعرف كيف تكتب عن الأحياء حيث يتشظى كل شيء، الإنسان والذاكرة والأفكار والتاريخ والتجارب الطلابية والسياسية، ما يجعل أحداث الرواية تتلون بتلون السارد/ الساردون، الذي (الذين) تتخفى وراءه (وراءهم) الكاتبة بترددها وإنسانيتها وقوتها وهشاشتها وقلقها.
وهو ما كسر الخطية التي تسهل مهمة الفهم لدى القارئ الإعتيادي، ولكن الكسر كان عن سبق إصرار وتقصد فني يتبدى بشكل واضح في مسارات الرواية التي اختارتها الكاتبة الحقيقية وليس الضمنية، آمنة الرميلي، التي لا تدّخر جهدا لأن تجعل من روايتها، قصة تلملم تمزقات جيل تونسي/ عربي وتقتفي آثاره المدماة. إبراهيم واحد من هؤلاء. لم يحك في الرواية قصته الخاصة ولكنه وضع جيلا بكامله أمام أزمة، ليس الضمير النضالي المرتبك هو وحده من يحددها ولا التجارب العاطفية الفاشلة، ولكن أيضا السؤال القاسي: ما هي مآلات أفكار وممارسات جيله الذي تعذب ولكنه انتهى إلى تبرير الدكتاتوريات أو غرق في وحل المناصب؟ ليس شخصية عابرة ولكنه نحن جميعا. مرآة من سلك طريقا كان في نهاياته حائط قاس وبارد من حجر الصوان. إبراهيم ينتهي به المطاف إلى جريدة بائسة. كان طالبا يساريا حاملا لانشغال ثقافي واجتماعي وسخاء نضالي بلا حدود. حالم بيتوبيا عشقية وأناشيد نضالية أممية وبعالم أكثر حبا وعدلا. لكن السجن والتمزقات الحزبية وهزائم الداخل السرية، تدفع به إلى التلاشي كأنه لم يعد معنيا بماضيه. يعيش في ظلام الذاكرة التي تلون الأزمنة بحسب الوضع النفسي. سلمي الكحلة التي تبحث عن تجلياتها داخل الشّعر بعدما خسرت يقينها في إبراهيم الحبيب، عاصفة متحركة لا قوة تقف أمام انتكاساتها وخيباتها. مستعدة لأن تموت من أجل رجل يجبها وتحبه ويظل قويا في وجهها. كبرت بين والد عاش في ظلام السرية بوثائقه، في منزله بالزهراء، وخال منمط داخل دهاليز النظام، على النقيض من والدها، سخر كل مواهبه ومعارفه لخدمة الجلادين الذين لا يعرفون الرحمة أبدا. كانت الجامعة مكانها الذي فجر فيها الرغبة في أن تكون شيئا آخر تنتفي فيه العقلية المصلحية الصغيرة ولا يبقى إلا فعل التفاني وسخاء الإنسان في عالم يخون نفسه ومثله في كل ثانية.
إبراهيم باع القلم وهي استندت على ما تبقى من صفاء فيها، شعرها. وكأن الشعر يظل في منأى عن خيانات اللغة والبشر. في النهاية تنتقل الحياة بين إبراهيم وسلمى من الندّية المشحونة، إلى الشفقة. كلهم بقايا زمن مات أو هو في طريقه إلى الزوال. حتى أحلام، الشخصية العرضية، ليست في النهاية إلاّ الوسيلة المثلى التي يتم بها ومن خلالها تأكيد فعل الموت النهائي. فهي ليست إلا التتمة الصاعقة للهزيمة الداخلية لإبراهيم، لكن أيضا لسلمى المنكسرة التي تختبر شكوكها بهدف تحويلها إلى حقائق لهزيمة أخرى، عاطفية، جنسية، سياسية، أصبحت واضحة ومؤكدة. تستعملها كطعم لترى قوة زوجها وقدرته على مقاومة المغريات، فيفشل في ذلك ويستسلم لأنوثة أحلام الندية؟ كل الخيانات تتشابه عندما يكون الكسر الداخلي عميقا.
على العكس من نادية التي تشكل فرادة في الرواية قائمة بذاتها، بحضورها وصمتها وقراراتها. فقد أحبت إبراهيم أيام الجامعة وهي في عز عنفوانها، لكنه اختار البعد عنها. بل اختار غيرها وظلت رهينة أشواقه وارتباكاته. تظل في عمق الدائرة، تعيش العواصف نفسها، في مجتمع تونسي يتحرك بشكل مجنون نحو السقوط الحر. عندما تنغلق الأبواب كلها في وجه إبراهيم، بما في ذلك باب سلمى، ينفتح باب نادية على الرغم من دوامتها هي أيضا، فيتبع بصيص ضوء لم يكن في النهاية إلا إعلانا ضافيا عن تراجيديا النهايات، ليس إبراهيم فقط ولكن نهاية ذاكرة جمعته بمحيط كان كبيرا ومتنورا مهما كانت الاختلافات، ليتشكل واضحا مثلث الرغبة Le d’sir triangulaire إبراهيم – سلمي – نادية الذي أنشأه روني جيرار يبين شمولية الهزيمة التي تخرج عن كونها فعلا فرديا إلى مأساة جماعية واجتماعية، يبدو الحب فيها حالة متماوجة بين الرغبة والكراهية، وأشكال خطابية مجوفة، لا تحل أي شيء لأنّ المجتمع حركية حية وتبدّلات مستمرة لا تصنعها الأجيال في تغيرها الدائم فحسب، ولكن الأفكار أيضا في تحولاتها العميقة، التي عليها أن تتجدد أو تموت نهائيا.
وهو ما حصل لجيل غرق في الأحلام الوردية والخضراء والحمراء، قبل أن يكتشف كوابيسه الخانقة، بعد أن نسي أن الحياة عندما يُترك جزؤها الحيّ والحقيقي في الظلّ، تتسع الهوة بين الشعب ونخبه، ويصبح الإصلاح مستحيلا. اليسار مثله مثل الحداثي والليبيرالي، ظلوا مزهوين بخطاب الجماهير ونسوا في غمرة الاشتهاء أن 75 من الأمية لا تصنع إلا الهزائم والعطالة والتفقير الثقافي. فبين خطاب هارب، وواقع سيدته الحياة بخلجاتها وقسوتها، تنطحن الشخصيات والأحلام داخل أسنان كماشة الحقيقة المرة.
وتنطفئ بذلك حتى الأحلام الممكنة. بين حاضر ميت وماض لم يعد يشعّ على أحد، وبين امرأة لا هو (إبراهيم) قادر على تركها ولا هي (سلمى) قادرة على حبه، تنطفئ كل قناديل المستقبل (ابنتهما أمل) التي حاولت سلمى أن توقدها ولكنها ظلت قوسا بلا معنى وعلامة صغيرة لتشوه عام، مس كل شيء بما في ذلك أعماق الناس وأحلامهم، أو ما يبدو كذلك.