من الأعمال الروائية الجميلة التي اقتنيتها من معرض الرياض للكتاب، وانتزعت لها وقتا حتى أقرأها، في الأيام الماضية، ‘رواية ساعي بريد نيرودا’، للكاتب التشيلي: أنطونيو سكارميتا، وبترجمة من المترجم القدير صالح علماني، الذي كما هو معروف، قدم لنا أجمل آداب أمريكا اللاتينية، وأدخلنا في ذلك العالم السحري الغريب، وكلنا قرأنا ترجماته الرائعة للمعلم غابرييل ماركيز، وإيزابيل أليندي، وماريو فارغاس يوسا، وعدد كبير من كتاب تلك القارة الساحرة.
بعضهم معروف بشدة، وبعضهم غير معروف لكن كتابته هامة جدا. وترجمته هذه، ليست الأولى لسكارميتا، فقد قرأت له من قبل رواية متشابكة هي فتاة الترمبون، أذكر أنها كانت من الروايات الجيدة أيضا لكن ثمة توهان ربما يحسه القارئ حين يتوغل في قراءتها.
رواية ساعي بريد نيرودا، في الحقيقة رواية قصيرة. ذلك الحجم من الروايات الذي يستدعيك لقراءته، في زمن قل فيه الوقت المخصص للقراءة بسبب ما طرأ على الدنيا من تغير، لكنها تمتلك نفس المواصفات التي اعتدنا عليها في أدب أمريكا اللاتينية، أي نفس السحرية القائمة على توظيف الخيال، ودمجه بالواقع، بحيث يصعب في النهاية التفريق بينهما، لمن يغوص عميقا في قراءة النص، ويلتحم معه، وبالتالي كل ما هو خيالي، هو واقع والعكس، ولأني من كتاب الخيال في جميع أعمالي، وتأثرت بالأدب اللاتيني في بداياتي، فأنا كقارئ أحتفي بهذا النوع من الكتابة أكثر من غيره، وهناك قراء لا يحبون هذه الطريقة، ويودون أن يكتب لهم الواقع كما هو، أو لعلهم يحبون تلك الأعمال القائمة على الفلسفة والتأمل، وهذه أذواق قرائية كما أردد دائما، ولا أعتقد أن ثمة دخلا لجودة الأعمال من عدم جودتها فيها.
إذن الشاب ماريو خيمينث الذي يعيش في قرية الصيادين في تشيلي، والتي هي أيضا مقر إقامة للشاعر الشهير: بابلو نيرودا، يعثر أخيرا على وظيفة ساعي بريد مخصص للشاعر نيرودا، الشخص الوحيد في القرية الذي تصله رسائل من الخارج، بشكل يومي وكثيف. رسائل من ناشري كتبه العديدين، من صحف ومجلات تود محاورته، من معجبين ومعجبات، من لجنة جائزة نوبل التي تدرس إمكانية منحه الجائزة في أحد مواسمها.. هكذا، وبالتالي يعمل ماريو بصورة يومية، راكبا دراجته المحملة بالرسائل، من مكتب البريد إلى بيت الشاعر الذي يقع على البحر.
ما لفت انتباهي، وأعتبره إدهاشا حقيقيا، إن الكاتب لا يصور لك بابلو نيرودا، وهو أكبر شاعر في تشيلي في تلك الأيام وربما إلى الآن. تصويرا مبالغا فيه كما لو صورنا مبدعا بحجمه أو حجم أقل منه كثيرا، في الوطن العربي. لقد صوره كإنسان فقط، إنسان عادي، يفتح باب بيته بنفسه، يفتح قلبه للقرية، ورئتيه لالتقاط هواء البحر المشبع بهواء أنفاس البسطاء، ويتعامل مع ساعي البريد البسيط، ببساطة أشد. يحاوره في الشعر، ويحدثه عن أفضل صياغات للقصيدة، ويستجيب لرغباته في التوسط له من أجل خطبة فتاة جميلة في القرية أحبها، ببساطة شديدة، واضعا في حساباته كل الخسائر، بما فيها أن تطرده والدة الفتاة.
لقد رسم لنا الكاتب لوحة مجيدة للشاعر الشعبي الذي يعيش وسط الشعب، في قرية شبه أمية، يقطنها الصيادون، يعيش بلا بريق ولا رفاهية، ولا جيش من النقاد والمهتمين، يتحاوم حوله، ولا فعاليات تدعم نجوميته. كان الناس يعرفون أهميته جيدا، ومع ذلك يتركونها بلا نبش، لا أحد يزعجه، أو يلتصق به، مقيدا حركته الإبداعية، حتى ساعي البريد وبرغم أنه أصبح في النهاية، ومن أثر الاحتكاك اليومي، صديقا للشاعر، إلا أنه واجه حرجا كبيرا في البداية، من أجل أن يطلب منه مجرد التوقيع على كتاب له، اشتراه من أجل أن يحصل على التوقيع..
يتضح في الرواية، جمال العلاقة الإنسانية بين الشاعر وساعي البريد، في مواقف عدة، حين يتبادلان الاستعارات، بعد أن تعلمها ماريو خمينث، حين يتحدث الشاعر نيابة عنه لوالدة الفتاة التي يحبها، متوقعا أن تحرجه، وحين يسافر الشاعر سفيرا لدولته في باريس، بعد فوز الإشتراكيين في الانتخابات، وتقلد سلفادور أليندي، مهمة رئاستها.
لقد كانت باريس غربة للشاعر، وهو يحن إلى البحر وبيته في قرية الصيادين، ويرسل لماريو جهاز تسجيل يابانيا، يطلب منه أن يسجل له كل الأصوات التي كان يسمعها في القرية، ويرسلها له هناك، من أجل تخفيف الغربة عليه، وعودة الإلهام لقصيدته. وبالفعل ينفذ ماريو ذلك الطلب. وحين تأتي الأخبار بمنح نيرودا جائزة نوبل في الآداب، يقيم ماريو احتفالا كبيرا وضاجا في القرية، التي تتجمع لتشاهد الشاعر في التلفزيون، يلقي كلمته المؤثرة في أكاديمية نوبل، وتصبح كلماته داعما معنويا كبيرا للقرية.
الرواية تتعرض كذلك، وبشيء من التحفظ، أو لأقل بشيء من التكثيف، لمأزق الحكم في تشيلي، في فترة زعامة سلفادور أليندي، وهو مأزق متوقع ومعتاد في كثير من البلاد التي لم تكن الحياة فيها سهلة في يوم من الأيام، ودائما ما تذكرني أجواء أمريكا اللاتينية، وبيئتها، بأجواء بلادنا وبيئتها، حقيقة أجد تشابها كبيرا، وما زلت أذكر مشهد الطبيب العائد من فرنسا، في رواية الحب في زمن الكوليرا لماركيز، حين نزل إلى الميناء من الباخرة التي حملته، وشاهد النساء الفقيرات، والأطفال الذين يسيل المخاط على أنوفهم، ولعن في سره ذلك الحنين الذي أعاده مرة أخرى. هذا المشهد وغيره من مشاهد البؤس في كل العالم الفقير، يتكرر بلا شك في الأعمال الإبداعية.
إذن رواية ساعي بريد نيرودا، رواية بسيطة، وسهلة، وكما قلت، قد حفلت بالخيال الكثيف كدأب أدب أمريكا اللاتينية كله، فقط هناك إحساس لدي بأنها لم تكمل، وكان يمكن أن تمتد أكثر، جالبة متعة أكثر. كما أن هناك أحداثا تم اختصارها بشكل لم أفهمه، مثل أن يجد القارئ طفلا شقيا لماريو خمينيث، ولم تكن ثمة مقدمات كافية توحي بوجوده.