نشرت مجلة ‘بروسبكت’ الفكرية البريطانية أخيرا قائمتها لأهم مائة مفكر في العالم لعام 2014، في إطار سنّة تحظى باهتمام في بلدان اللغة الانكليزية ونتابعها في هذه الزاوية منذ أعوام. ليست القائمة من اختيار هيئة التحرير، بل إن القرار فيها للقراء.
وقد كان تصويتهم هذا العام مليئا بالدلالة والطرافة في آن واحد. الطرافة، لأنه احتفى بالهند احتفاء فأحلّ ما لا يقل عن خمسة مثقفين هنود في مراتب الشرف العشر الأولى.
والدلالة، لأنه أبرز مدى انشغال الشرائح القارئة في العالم بقضايا التنمية الاقتصادية في إطار العدالة الاجتماعية، أي بتحديات توزيع الثروات الوطنية توزيعا أخلاقيا أمثل.
ولا يقتصر هذا الانشغال على بلدان اللغة الإنكليزية، إذ إن من أعلى الكتب مبيعا في فرنسا هذه الأيام كتابا يعالج قضية اللامساواة، بعنوان ‘رأس المال في القرن الحادي والعشرين’، لقبت الاكونومست مؤلفه توما بيكتي بأنه ماركس هذا الزمان.
وبما أن ‘المسألة الاجتماعية’ لا تزال (رغم ازدهار أوهام ‘سياسات الهوية’ في ربوعنا) هي جوهر السياسة، فكرا وممارسة، سواء في البلدان المتقدمة أم البلدان الباحثة عن طريق، فقد كان من الطبيعي أن تكون المرتبة الأولى من نصيب عالم الاقتصاد الهندي أمارتيا سن.
إذ ليس هناك باحث قلّب معضلة الفقر على جميع وجوهها وشرّحها تشريحا مثلما يفعل أمارتيا سن منذ أكثر من أربعة عقود.
واللافت عند أمارتيا سن أنه تجاوز الثمانين ولكن إنتاجه الفكري ما يفتأ يزداد غزارة.
والجميل فيه أننا عرفناه قبلا مثقفا كونيا مهموما بمشكلات عابرة للأمم، ولكنه أخذ في الفترة الأخيرة – وخصوصا منذ صدور كتابه ‘الهندي المجادل’ عام 2005 – يخاطب الإنسانية من موقع محدد، هو موقع المثقف الهندي المتضامن مع شعبه، المتدبر في عبر تاريخ قلّما كان رحيما ببلاده.
أما المرتبة الثانية، فقد كانت من نصيب الباحث الاقتصادي الهندي راغورام راجان الذي سبق له أن تنبأ عام 2005 بأزمة 2008 المالية والاقتصادية.
وقد قبل أواخر العام الماضي تحمل مسؤولية رئاسة البنك المركزي الهندي رغم أن المنصب عرض عليه في خضم أخطر أزمة اقتصادية تعصف بالهند منذ أكثر من عقدين.
وقد كان من العدل، أو بعضه على الأقل، أن تؤول المرتبة الثالثة إلى الكاتبة والناشطة المدنية الهندية أرونداتي روي التي كانت قد بزغت فجأة في سماء الحياة الأدبية البريطانية شمسا مكتملة بفوزها بجائزة بوكر عن باكورتها الروائية ‘إله الأشياء الصغيرة’.
ولأن همها سياسي في المقام الأول، فقد استثمرت شهرتها الثقافية في النضال ضد السياسات النيولبرالية التي تنتهجها الحكومات الهندية المتعاقبة والتي كثيرا ما تؤدي إلى مصادرة أراضي صغار الفلاحين لتسهيل حصول الشركات الكبرى عليها لاستخدامها في مشاريعها الصناعية العملاقة، وإلى التضحية بحق عشرات الملايين من الفقراء في أبسط مقومات الوجود، بما فيها الماء الصالح للشراب والهواء الصالح للتنفس.
نقطة بالغة الدلالة: ما يجمع بين أصحاب المراتب العشر الأولى هو أنهم من ناقدي الأصولية النيولبرالية التي لا ترى بأسا في هدم المجتمعات في سبيل زيادة أرباح الشركات.
الهنود كانوا و لا يزالون محل تندر و سخرية من بعض السياسيين و حتى الشعوب، و لا أدل على ذلك من وينستون تشرشل وصف ذات مرة المهاتما غاندي بالرجل النصف عاري (لتشبهه بطائفة المنبوذين) ثم اضطر للجلوس معه و مفاوضته. لكن الهنود يثبتون يوما بعد يوم أنهم أقوام أصحاب رسالة، و ما انتشارهم في كليات الهندسة بطلبة و كأعضاء بهيئات التدريس و سيطرتهم على صناعة الصلب في العالم و عظم ما ينجزونه في ميدان البرمجيات و الكمبيوتر إلا تمظهر من جملة تمظهرات أخرى يطول ذكرها.
بالمناسبة، أزمة 2008 الإقتصادية وقع التنبؤ بها منذ 1999 (جوزيف ستيڨليتز) و تأكدت بعد 2002 نتيجة سياسات تحرير الأسواق المالية التي انتهجها بوش