مصطلح المابعديات ليس جديدا ما دام التاريخ ذاته قد تم تحقيبه الى ما قبله وما بعده، بدءا من ميلاد السيد المسيح.
لكن ما امتاز به عصرنا هو التعامل مع الماضي من خلال قطيعة معرفية معلنة، وذلك بفضل الانقلابات الكوبرنكية المتعاقبة التي احرقت مراحل، فما كان يحتاج الى قرن اصبح ينجز في عقد، مما اصاب الانسان المعاصر بتضخم الذات والنظر الى التاريخ كما لو انه بالفعل انتهى، وهذا ما فعله ‘فوكوياما’ عندما نعى التاريخ، واعلن خاتمته واضاف الى هذا النعي الانسان بشكل ما.
وقد يكون مصطلح ما بعد الحداثة هو الاكثر تداولا اليوم خصوصا في النقد، واذا صدقنا ما يقوله ‘ماكفرلن’، احد مؤرخي الحداثة، فإن بيان موتها صدر عام 1815 في برلين ليبدأ ما بعدها. وثمة مجتمعات تعاني مشكلات ما بعد الحداثة رغم انها متورطة بما قبلها، تماما كما هو الحال بالنسبة لمن يعيشون حقبة ما قبل الدولة، لكن السجال العقيم يستغرقهم حول اقانيم الدولة واطروحاتها المعقدة.
وبالفعل كتب الأنثربولوجست كلاستر دراسة موسعة بعنوان ما قبل الدولة، وكان مجال دراسته شعوبا بدائية سواء من حيث انماط الانتاج الرعوية او من حيث سطوة التقاليد، واذا جاز لنا ولو اجرائيا تحديد المابعديات في خمسة عناوين فهي على النحو التالي: ما بعد الاستعمار وما بعد الصهيونية وما بعد التاريخ وما بعد الحداثة، واخيرا ما بعد الفلسفة.
ما بعد الاستعمار مصطلح ظهر في الحرب العالمية الثانية واطلقته الولايات المتحدة الأمريكية، بعد الدور الذي قامت به لإغاثة اوروبا وبالتحديد فرنسا من الاحتلال النازي، وكان هذا الشعار بمثابة اعلان عالمي عن نهاية عهود الانتداب والاحتلال والوصاية لكنه لم يعمر طويلا، اذ سرعان ما انتجت امريكا ذاتها نمطا جديدا من الكولونيالية، عندما اطلق عليه ‘سارتر’ في اربعينات القرن الماضي ‘الاستعمار الجديد’ الذي قد لا يكون مشهودا على نحو مباشر وبالعين المجردة، لانه يستبدل الجنود والثكنات بالأسواق والمفاهيم المتعلقة بها. وسبق ان حذر منها اثنان على
‘الاقل احدهما مالك بن بني عندما كتب عن استلاب ضحية الاستعمار بالمعنى الخلدوني، الذي يتبنى وقد يتقمص الافكار التي زرعها فيه المستعمر عن بعد، او في اعقاب رحيله.
والمفكر الاخر هو المارتينيكي د.فرانز فانون في كتابه ‘معذبو الارض’ ولم يكن ما حذر منه بعيدا عن مالك بن بني الا بقدر اختلاف المرجعيات والايديولوجيا، وما بعد التاريخ هو العنوان الحقيقي لأطروحة ‘فوكوياما’، الذي لوى عنق ‘هيجل’ كي يلبي اطروحته، بحيث يجد في اخر مراحل الرأسمالية وفي طور التوحش مثالا لاستعادة المطلق، فهل انتهى التاريخ بالفعل عشية هدم سور برلين، او عندما وضعت الحرب الباردة آخر اوزارها!.
هذه الفرضية لا يمكن ادراجها في خانة السجال الفلسفي، لأنها صادرة في الأساس عن موظف آسيوي في الادارة الامريكية، يرى في الأمر الواقع حقيقة مطلقة ينبغي التسليم بها كقدر، لأن التاريخ قد يكون على وشك الإبتداء لا الإنتهاء بمقياس آخر، وما مر من اباطرة على هذا الكوكب ليس سوى بدايات لتاريخ لم يبلغ رشده، وبمعنى آخر لم تتحرر ضحاياه بمختلف اشكالها بالقدر الذي يتيح لها ان تكتب تاريخها الخاص.
ولم يتوقف الامر عند نعي ‘فوكوياما’ للتاريخ، بل جاء بعده من شطر التاريخ الى ما قبل الحادي عشر من ايلول/سبتمبر عام 2001 وما بعد هذا التاريخ بل وما بعد هذا اليوم بالتحديد. وفي الحالتين ثمة طغيان مسلح بالايديولوجيا وليس بالافكار على الخبرة البشرية الطويلة التي لم يتبق منها الا ما تقطر من كثافتها خلال عدة ألفيات، والخلل المنهجي المتكرر في اطروحات تعيد تشطير التاريخ او تحقيبه هو الاستمرار في احتكاره واعتبار مركزيته اوروبية وامريكية، وهذا الوهم الكولونيالي حرم من اصيبوا به لعدة قرون من قراءة الحضارات الاخرى، وكان البديل للإستقراء والتعلم هوالاستشراق الذي أخضع لأهداف التمدد الامبراطوري وتعميم ثقافة السطو.
ومصطلح ما بعد الصهيونية، بدأ يتردد بعد عقود من تحول الايديولوجيا الى دولة، فالأيديولوجيا التي يصفها ‘اسرائيل شاميرون’ بسخرية انها عذراء ‘تأسرلت’. ولمصطلح ما بعد الصهيونية بعدان، رسمي تعبر عنه الدولة وبعض الحالمين باستعادة دور الريادة من طراز ‘اسحق شامير’ و’شارون’ واخيرا ‘نتنياهو’، وثقافي مضاد عبر عنه المؤرخون الجدد ومنهم ذلك الأكاديمي الشاب الذي اكتشف مذبحة الطنطورة عام 1948 وتعرض للتنكيل ووصف بالعقوق، ومنهم ‘فتكلشتيان’ الذي يصف دموع الضحية بعد ان تقمصت دور الجلاد بأنها دموع تماسيح، وان كان الابرز بين هؤلاء هو ‘ايلان بابيه’ الذي كتب عن الفلسطينيين المنسيين من منطلق مضاد للصهيونية وادبياتها.
للفلسفة ايضا ما قبلها وما بعدها، فقبل عدة عقود ترجم الراحل جبرا ابراهيم جبرا كتابا بعنوان ما قبل الفلسفة وكانت الاسطورة هي مجال تلك الدراسة، لكن الاساطير ليست منقطعة تماما عن الفلسفة اذا احتكمنا الى تعريفها الاغريقي وهو حب الحكمة. وهناك اساطير تقبل تأويلات تاريخية لا نهاية لها لانها لا تنغلق على زمان ومكان محددين، فبروميثيوس وسيزيف واوديب وميدوزا، عبرت العصور وعولجت ادبيا في نصوص خالدة، حتى التاريخ كانت الاسطورة في الصميم منه خصوصا تلك الاسطورة التي تصفه بالعجوز الثرثارة هيكوبا.
لكن هل للفلسفة ايضا حدود ما ان نتخطاها حتى يبدا ما بعدها!.. قد تكون الاجابة الادق هي ما قدمه الفيلسوف ‘ريتشارد رورتي’ الذي تحدث عنه باسهاب د. محمد جديدي في كتاب حمل عنوان ‘ما بعد الفلسفة’، لان ‘رورتي’ في مطارحاته يقدم مفهوما لفلسفة اخرى، تحرص على المحادثة اولا، وهو رائد البرجماتية الجديدة التي حطمت الروابط التاريخية التي الحقتها بالنفعية وكما يقول د. جديدي بأن ‘رورتي’ دافع عن فلسفة من دون الفلسفة، وبحث عن الحقيقة في اللاحقيقة.
لكن هذا التصور لم يتبلور بعد بالقدر الكافي لاطلاق مصطلح ما بعد الفلسفة، واذا استمرت هذه المتتالية من المابعديات فقد تشمل الانشطة العقلية كلها، ومنها الكتابة فالقطيعة الان تهدد الجذور والمرجعيات وكأن العالم يتهجى وجوده بلغة اخرى. لكن ما يغيب احيانا هو الالتباس الناجم عن التداخل بين مصطلحي ما تحت وما بعد والاستخدام التقليدي لمصطلحات من طراز ما بعد الواقع او ما فوقه كما في ‘السوريالية’ و’الميتافيزيقا’ اصبح قابلا للتمدد.
اخيرا.. بل اولا، هذه مجرد ملاحظات اولية حول انقلابات جذرية في صميم المعرفة، وبإمكان اي كائن ان يتجاهلها لكنه سيفاجأ بعد فوات الاوان انه من الضحايا التي تجهل جلادها!.
الحاجة الى الفلسفة: الحداثة والعولمة ومرادفاتهما من التكنولوجيا وتطور المفاهيم والممرات الاجبارية التي تحكم الانسان المعاصر وترصد حركاته وسكناته خلقت وضعية من اللا استقلالية أو تبعية الفرد والجماعة لمنظومات خارجة عن الارادة.
منذ نشوء المعرفة وتلمس الانسان لما حوله اعتمد على التأمل لتفسير الظواهر التي حوله ومع تطور المعرفة أصبحت الفلسفة القائمة على التأمل سلوك للبحث ولم يستغن الطبيب والمؤرخ و رجل الدين وعالم الرياضيات عن الفلسفة حتى انهم كانوا فلاسفة اولا ومعرفتهم انطلقت من هذا الواقع.
في وقتنا هذا ومع تفرع العلوم والمعرفة الى ادق التفاصيل أصبحت المعارف مهن وأداء مجرد من التأمل. فطبيب القلب يتعامل مع الشرايين والدورة الدموية وليس لديه معرفة تامة عن الانسان ككل لذا ينخرط بالقلب او أي عضو آخر بطريقة مخبرية.
ولا ندري اذا ما عملت المختبرات للاستغناء عن الانسان بآخر روبوتي كما تصور بعض افلام الخيال العلمي.
لا زالت البشرية بحاجة الى الفلسفة كونها أي الفلسفة تنطلق من رؤيا شمولية وتحمل في طياتها امكانية حل لمشكلة الانسان المعاصر واحتياجاته المتنامية.
فلننته من كتاب “ما قبل الفلسفة” اولا حتي يمكننا الانتقال لكتاب ما بعدها. فالكتاب في طبعته العربية من ترجمة جبرا ابراهيم جبرا. ولا اعرف يقينا هل نظلم الرجل باتهامه بالغش أم نحيل الامر برمته الي الثقافة العربية التي تخاف من كل ما اخذت اصولها منه. فالكتاب باللغة العربية له اربعة مؤلفين أما في اصله الانجليزي فله خمس مؤلفين. تم حذف باب كامل بمؤلفة الذي كشف لنا اصولنا العربية والاسلامية. الباب المحذوف يقع في 141 صفحة من مجمل الكتاب بصفحاته 403. ولن اطيل فالكتاب الاصلي بعنوان: The Intellectual Adventure of Ancient Man من توزيع The University of Chicago Press و برقم 7584141312 والباب المحذوف من تاليف وليام اروين بعنوان “العبرانيين.