أيها الشباب لكم أكتب

بعيدة الهوّة بين الثماني عشرة والثمانين ولكنني أحاول أن أكون صديقتكم…
أكتب لكم أيها الشباب، لأن جيلي يعرف ما أعرف وهم لا يحتاجون لي وأكثرهم قد رحل.
يحزّ بقلبي أنكم نشأتم في زمن الحروب والكراهية والعداوات التي لا معنى لها…
ربما تمتع جيلكم بوفرة الطعام، والملابس، وكنا نفرح بكسوة الشتاء وكسوة الصيف،
ونتمتع بخبز التنور والبصل عصريات القحط على السطح،
عندكم آخر اختراعات التكنولوجيا، وكنا نقرأ على ضوء الشمس حتى المغيب
ولم تدخل الكهرباء بيوتنا بعد.
ولكننا كنا نستمتع بالاغنيات ونتناقلها ونتلذذ بمعانيها ولو من راديو الجيران.
أسألكم…
كم واحد منكم أنصت بعمق إلى اسمهان وهي تغني هذه الكلمات:
‘لا ضرب المقدور أحبابنا ولا أعادينا بهذا الحسام…’ من قصيدة ‘هل تيم البان…’
تجدونها تحت الطلب في الكومبيوتر،
استمعوا إلى هذا الصوت الذي تجمع فيه أوركسترا يعززها الكمان في صوت أسمهان وحده.
أحببتم، أدري، قصيدة الأطلال بصوت أم كلثوم لأنها الأقرب لزمانكم
فهل تعمقتم في معانيها؟ ماذا أراد هذا الشاعر الطبيب إبراهيم ناجي أن يقول؟
وبمن تأثر هو والشاعر المصري الآخر صالح جودت وغيرهما؟
هل سمعتم بعلي محمود طه المهندس وهو أستاذهم وأستاذ كل شعراء القرن العشرين،
لم يبق بيت في زماننا لم تدخله كل كتب علي محمود طه المهندس.
كل الشعراء الذين تعرفونهم الآن تلاميذ علي محمود طه المهندس:
نزار قباني، نازك الملائكة، بدر شاكر السياب، الخ. لقد غيرّ علي محمود طه الذائقة العربية ونقلها من جلجلة المفردات إلى أناقة المدنية.
استمعوا إلى قصيدة الجندول بصوت محمد عبد الوهاب وهي قريبة إلى عهدكم،
وسمتعوا إلى قصيدة الكرنك بصوت عبد الوهاب أيضاً،
وحاولوا أن تدخلوا في أعماق معانيها
(ههنا الدنيا وكم من ملكِ صارع الموتَ بظل الكرنكِ
أين يا أطلال حند الغالب أين آمون وصوت الراهب).
علي محمود طه لم يكتب قصيدة التفعيلة ولا ما يسمى بقصيدة النثر التي تستسهلونها،
كتب تماماً على الطريقة العربية الكلاسيكية، مع ذلك تحس أنه يكتب بلغة جديدة غير مألوفة،
ليس فيها صناعة ولا تعقيد لغة ترفعك إلى حالة تشبه الحلم.
إيها الشباب وأنتم من أحفادي، يعز عليَّ أن تكون بيني وبينكم هوّة لا أستطيع أن أنزل إليها
ولكنكم تستطيعون الصعود منها،
هوّة تجعلني أحياناًَ ويخشونة إستهزئ من أغاني عصركم (الطاشة)
وأراها مع الأسف، فارغة من المعنى والهدف.
كنا نعرف الرقص الفالس، والتانكو والرومبا والهجع والدبكة كذلك
ولكنكم اليوم تكررون الحركة نفسها على إيقاع واحد في حفلاتكم
من بداية الحفلة حتى خيوط الفجر. تكرار تكرار يسير أفقياً ولا يرتفع.
معذورون ولا عذر لكم، فإن قصّرت المدرسة عندكم الكومبيوتر والعالم تحت أمركم،
ولكنكم أنفقتم جهد التكنولوجيا (بمسجات) قد تسلّي ولا تُغني.
لغتكم، هذه اللغة اللامحدودة، هي هويتكم وليس غيرها، فتعمقوا واستمتعتوا بجمالها، تصلون إلى المحبة، المحبة الكبيرة التي لا فجوة فيها للكراهية والتمييز.
الحياة، حياتكم جميلة، تحيط بها الشوائب والمنغصات أيها الشباب، حاولوا أن تحصدوا ما ينفع منها ولا تبذروها بملاحقة التافه غير المجدي.
أحبكم، وأكتب لكم لأنني أختزن كنزاً من هذا الجمال وأريد أن أشارككم فيه، قدر ما يسمح زمني.

لميعة عباس عمارة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي عمر قاسم:

    مع الاسف ذهب هذا الزمن الجميل وحل معه الطائفيه ووالتباهي بالعماله

  2. يقول نبيل كابان:

    الله .. ما اروعك من شاعرة وفنانة وانسانة مملؤة بطيب العراق وامتداد لحضارته. نصيحتك للشباب غارت في اعماقي وكأنك لسان حالي. لقد سبق وان علقت في احد المحافل، وقلت: انك مفخرة للمرأة العراقية وللرجل العراقي وللعراق برمته. وددت ان تسمحي لي بتعليق بسيط بشأن الهوة بينك وبين الشباب الان. اود ان اقول بانك لست هوة ولاممكن ان تكوني كذلك انما انت جسر كبير ينقل كل فنك وتراثك الثر وقصائدك وانسانيتك من عراقك الى هذا الجيل المنجرف بتيارات غريبة . لطالما اطربتني موسيقى اشعارك وحلقت معك باجنحة مشاعرك الرقيقة والواضحة ولنظرتك الى الجمال افتخر بك يا عراقية حد النخاع انت مذ كنت شاعرة في الثامنة عسر من عمرك ولغاية يومنا هذا. امد الله بعمرك لتغنينا بفنك الرائع والنبع الذي لاينضب

إشترك في قائمتنا البريدية