ثمة في كل نص»باذخ» أو هو مكتوب بلغة رفيعة، كتابة «لا مرئية» حاملها الذاكرة، سابقة على كتابة مرئية حاملها الخط. ومثل هذا النص، سواء أكان الشعر أم «الوحي»، كتابي حتى وإن أعد شفهيا أو ذهنيا في صمت، أي قبل أن يمليه صاحبه على الآخرين، وقبل أن تتدبره الكتابة وتثبته في صورة خطية، وتقيده في هيئة بصرية.
والكتابة في هذا المفهوم تنوب «التفاعل» الشفهي. وهي لا تحد في شيء العلاقة المباشرة بين متكلم ومستمع، وهي أساس الكلام أو الأداء الشفهي. ذلك أن نص الوحي مثل الشعر قول لا يسمع سمعا، بل يستغرق السمع استغراقا. وهذه عبارة لجون ستيوارت مل، أوردناها بتصرف بسيط، نقلا عن روبرت شولز في «البنيوية في الأدب». وفي هذا ما يدل على أنه نص يمكن أن يحد من حيث هو أداء كتابي حتى إن جاء بصيغة صوتية غير مخطوطة. فهو نص «يُملى»، وكلما كان إملاء كانت كتابة. ووضعية الإملاء تتيح لصاحب النص أن يتعهد نصه المثبت في الذاكرة، حذفا أو زيادة أو تغييرا، وأن يمليه دونما استئناس بنص مخطوط. وربما وقع في الظن أن وضعية الإملاء تنطوي على عناصر الاتصال «الجاكوبسونية» جميعها من سياق ومرسل ومتقبل، وأن النص ينتمي، من ثمة، إلى الأداء الشفهي وليس إلى الأداء الكتابي حيث لا يظهر المرسل؛ ولا يملك المتقبل سوى الرسالة وحدها. وهذا في تقديرنا من مدخول الظن وخادع الانطباع، فنص الوحي مثلا (وأنا لا أتحدث عن المصحف) محكوم مثل نص الشعر بازدواجية مثيرة: ازدواجية السياق وازدواجية المرسل وازدواجية المتقبل.
أما سياقه فسياقان: سياق غائب يرجع إلى «الخطاب الصامت» السابق على لحظة الإملاء، حيث يكون المرسل قد تعهد نصه وثبت الكلمات ومبناها في ذاكرته. وسياق حاضر يرجع إلى مواقيت إملائه ومواقعها. وأما المرسل فمرسلان : فالوحي في معتقدات المسلمين وفي متخيلهم الديني، رسالة أوحت بها ذات متعالية مفارقة (الذات الإلهية) إلى متقبل أول (النبي). وهذا المتقبل مرسل ثان ينقل الرسالة إلى متقبل ثان لا يحد ولا يصنف، أو هو متحرر من رق الزمان والمكان، لأنه (الإنسان) في كل زمان وفي كل مكان. على أن هذا المتقبل في سياق الإملاء إملاء الوحي «كاتب» يسجل الوحي ويقيده بالخط. فهو مدون أكثر منه مستمعا. وإذا كانت له مشاركة «شفهية» فهي مخالسة لا تعدو استيضاح لفظ أو معنى أو هيئة من هيئات التماس مع القول؛ أو التعاطف المرتبط بهذا التماس اللغوي نفسه، خاصة في نص كالقرآن يتميز بإنشائيته الرفيعة التي تفسح للمتقبل من مجالات الخيال والتصور، إذ يدخل عالما خياليا بين السامعين والواقع، هو ما اصطلح المسلمون على تسميته بـ«عالم الغيب»، مثلما يتميز بإيقاعه اللفظي الذي يستغرق سمع المتقبل استغراقا، ولكن دونما أي تدخل منه في أسلوب الرسالة أو في تركيبها.
إن تقصي مظاهر الكتابة في نص كالشعر أو كالقرآن، يؤكد ما أثبتناه في غير هذا الموضع استئناسا ببحوث جاك غودي، أن الجهل بالخط لا يعني ضرورة الجهل بالكتابة. فالوحي شأنه شأن الشعر، نص « كتابي مكتوب» ما أخذنا بالاعتبار مفهوم الكتابة عند القدماء، من حيث هي تجميع وتأليف أي جمع أشياء بعضها إلى بعض ووضع جمل بعضها مع بعض، وربط أحداث بعضها إلى بعض، لإخراج معنى مفيد. وربما تعزز المظهر الكتابي في مثل هذين النصين الأثيرين في ثقافة العرب؛ في هذه الإشارات المرئية التي نقف عليها في ازدواجية عناصر الاتصال غير الصوتية. وهي ازدواجية قائمة في جذر أي تجربة جمالية يمكن أن تقدمها الكتابة أو تتمثلها.
شد القرآن العرب بنوع كتابته وهم الذين حاروا فيه، والوحي قريب العهد إليهم، وتحيروا، فمن قائل إنه شعر أو سحر وقائل إنه أساطير الأولين أو سجع الكهان
على أنها في النصين اللذين نحن بهما، وربما في غيره من أجناس القول، ليست كتابة خالصة. فنص الوحي يقارب القصيدة طالما كان المرسل هو المتكلم، وينزع إلى المكتوب طالما كان المتكلم ممايزا من المنشئ (الذات الإلهية). وهو، من ثمة، نص محكوم بهيئة من التأليف شبه شفوية، وهيئة من التأليف كتابية أو شبه كتابية. ومن هذا الجانب فإن» التأليف الشفهي» في ثقافة كتابية أو هي عرفت الكتابة بنسبة أو بأخرى، لا يمكن إلا أن يختلف عن «قرينة» في ثقافة شفهية خالصة. ومهما يكن فإن سلطة الكتابة الاجتماعية منوطة بنوع الكتابة أو بمفهومها، أكثر منها بكمها أو بمدى ذيوعها وانتشارها. والقرآن إنما شد العرب بنوع كتابته وهم الذين حاروا فيه، والوحي قريب العهد إليهم، وتحيروا، فمن قائل إنه شعر أو سحر وقائل إنه أساطير الأولين أو سجع الكهان، وقائل ينزهه عن هذا كله فما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة. وفي هذا الزعم أو ذاك تسليم بأثر أساليب القرآن وبيانه في نفوسهم، أي بما هو منضو إلى النوع و«الحسن»و»الممتع» أو راجع إلى الوظيفة الشعرية أو الجمالية أو إلى «الغريب» أو»غير المتوقع» أو ما يسميه القاضي الجرجاني «مواقع الحسن والغرابة» في القصيدة الأنموذج، في مصنفه الشهير» الوساطة بين المتنبي وخصومه». وما كلام القدماء في مباحث الإعجاز، والوحي بعيد العهد عنهم، على»مفارقة القرآن لكلام العرب» و«خروج نظمه عن سائر نظومه» سوى تسليم بنوع من «بيان القلم» لم يكن للعرب به سابق عهد. وبهذا النوع من الكتابة استطاع النبي على»أميته بالخط» (وهي مسألة خلافية لا يعنينا الخوض فيها في ما نحن بصدده. وإن كان من المفيد في هذا السياق التمييز بين الأمية بالخط والأمية بالكتابة، لأن هذه لا تعني ضرورة تلك) أن يجمع سلطان النص إلى سلطان النبوة الاجتماعي والسياسي وأن يجعل العرب يعتقدون في اختلافه عنهم، وتميزه عليهم فيحشدهم في طاعته وفي مراتب قيمه ونسيج نصه، بالرغم من أن المتخيل الذي ينهض به النص القرآني متخيل تخاطب كتابي يخص طائفة من الناس مأخوذة بالكتابة؛ والحال أن الكتابة لم تكن ذائعة شائعة في بيئة هؤلاء العرب القدامى. فلعل سلطان الكتابة كان راجعا، في جانب منه، إلى تطابق صريح بين سلطة النبي السياسية وسلطة المتخيل وطرائق أدائه. والكتابة، في ما تبينه الدراسات الحديثة؛ إنما تكون حامل تصعيد أو تسام أو إعلاء، كلما استشعرت الجماعة المرتبطة بها، الحاجة إليها من حيث هي صورة من صور التبعية للآخر والولاء له. وهذا رأي تثبته شتى الكتابات الدينية وتنهض به، ونلتقي في «الشعر على الشعر» مثلما نلتقي في»القرآن على القرآن «أو «الخطاب الواصف» أدلة وقرائن كثيرة تتضافر كلها في صياغة «لغة واصفة» تشير إلى تفكير الذات المتكلمة في خطابها من حيث هو الكلام المعجز المبين على نحو ما يقول امرؤ القيس:
أنا الشاعر المرهوب حولي توابعي/ من الجن تروي ما أقولُ وتسمعُ
أو وحي السماء وأساس التشريع والقانون المنظم للسلوك والمرشد إلى معالي الأمور؛ أي التلفظ» أو «القول» القائم على متكلم ومستمع، حيث المتكلم مدفوع برغبة التأثير في المستمع أو المتقبل بطرائق وأساليب شتى. ولا نعدم في مباحث الإعجاز؛ ولعلها تفيدنا في فهم الشعر أكثر مما تفيدنا المدونة النقدية؛ لفتات طريفة إلى الأثر النفسي في أسلوب القرآن، حيث تطرد عند علماء الإعجاز مثل الرماني والخطابي والباقلاني وعبد القاهر، مفردات مثل « اللذة « و«الحلاوة « و«المهابة» و«الروعة»، وما إليها من عبارات تتضافر في صياغة سلطة ذات «كاتبة» غير منظورة، تنفصل، وهي تتكلم؛ عن العالم المتخيل الذي تصنعه على قدر ما تتصل به.
يقول الخطابي: «إنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب وحلاوة في حال، ومن الروعة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور».
إن مثل هذه الشواهد ترجع إلى وظيفتين من جملة الوظائف التي يؤديها النص هما:
الوظيفة الشعرية أو الجمالية التي تحمل فضل معنى على أساس من التأثير في البنية والنغمية والأصوات والإيقاع والصورة وما إليها، وتجعل الرسالة أشد أثرا وأكثر إمتاعا قراءة أو سماعا. والوظيفة التنبيهية التي تسائِل المخاطب أو المرسل إليه وتدمجه في الخطاب وتذكي فضوله.
وعليه فإن الأثر النفسي في أسلوب الشعر أو القرآن وكتابته أو «رسوم نظمه» بعبارة الخطابي؛ ولعلها ليست إلا رسوم الكتابة وما يلازم هذا الأثر من نظرة دهشة وإعجاب ويخلص منه إلى القلب من اللذة والحلاوة ومن المهابة والروعة، وما يتلوه من يقظة الإدراك وصحوة العقل، سواء أكان المتقبل، من النص في سهولة مأخذ وحسن تأت، أم كان منه بين ارتفاع وصببٍ؛ مظهر لافت من سلطة الكتابة الشعرية أو القرآنية، لا ينسرح العقل منها ولا ينفك عنها.