إن استطاعت السيطرة على عقول وقلوب أحفادهم، فماذا سيبقى بعدها من تأكيدات الجزائريين المستمرة عن عزمهم وتصميمهم على ألا تذهب دماء أكثر من مليون شهيد من أجدادهم هدرا؟ ربما ليست لقصة “مامودو غاسما” علاقة مباشرة بذلك السؤال الحائر، لكن المنطق الفرنسي كان وسيظل في كلتا الحالتين واحدا.
لقد تم الأمر في زمن قياسي وسطع منتصف مايو/أيار الماضي نجم شاب مالي بعد أن تسلق واجهة مبنى باريسي لينقذ طفلا كان يتدلى يومها من شرفة إحدى الشقق. ولاجل ذلك فقد لقب “مامودو” في مواقع التواصل الاجتماعي بـ”سبيدرمان” وحصد مع ذلك اللقب الفخري أرفع وسام تمنحه بلدية باريس قبل أن يستقبل لاحقا في قصر الإليزيه ليحقق له الرئيس ماكرون حلم عمره، بتحويله من مهاجر غير قانوني إلى مواطن له ما للفرنسيين وعليه ما عليهم. ومنذ الاربعاء الماضي أصبح بإمكانه أن يقول وبالفم الملآن إنه صار فرنسيا، بعد أن نشرت الجريدة الرسمية المرسوم الرئاسي الذي أقر له بذلك، والذي وصف ما قام به بـ”العمل البطولي الذي جسد بطريقة مثالية بعض القيم التي تساهم في ترابط أفراد الجماعة الوطنية مثل، الشجاعة والترفع وحب الخير والاهتمام بالضعفاء”. قبل أن يضيف بانه “نظرا إلى ذلك التصرف وتردد صداه في فرنسا والعالم ما ساهم أكثر في إشعاع البلد على الساحة الدولية، فإن تجنيس السيد غاسما يشكل مصلحة استثنائية لفرنسا”.
ولكن لنتخيل فقط ما الذي كان سيحصل في حال لو أن ذلك الشاب المالي لم يقبل العرض الفرنسي بالتجنيس، وصمم على الحفاظ على جنسيته المالية دون سواها، وقال لمن ارادوا تكريمه انه لا ينتظر جزاء أو شكورا نظير العمل الانساني الذي قام به، وانه تربى في مالي على كل القيم السامية التي أشاد بها مرسوم تجنيسه. ألم يكن الإشعاع الدولي سيذهب حينها إلى بلده الام، أي مالي بدلا من أن يتجه إلى بلده الجديد فرنسا؟ ألم يكن ذلك الموقف الفردي والبسيط سيهز ولو قليلا الرأي العام الفرنسي، وسيجعله يراجع ولو جزءا بسيطا من نظرته الدونية والاستعمارية لشعوب القارة؟ لعل ما يعنينا في قصة المهاجر المالي التي تكررت وبلاشك مع آخرين غيره هو أن طريقة منح الجنسية الفرنسية لم تعد تختلف كثيرا عن طريقة اسناد جوائز الأوسكار أو جوائز مهرجان كان السينمائي، مع كل ما يرافقها من شد وتشويق وبهرج إعلامي. وفي الواقع لم تكن كل التكريمات التي حظي بها الشاب المالي والتغطية الاعلامية الواسعة التي رافقتها، سوى إشارة واضحة إلى أن باريس تجزل التكريم والعطاء لكل من يقدم لها عملا نافعا أو مفيدا. اما من لم يجد شيئا ليدفعه أو يقدمه لها فلن يكون بإمكانه أن ينتظر أو يتوقع منها أن تفتح له ذراعيها لتستقبله استقبال المكرمين والمبجلين. وحتى هنا لا يبدو ذلك بالجديد أو الغريب. فكل الدول والكبرى منها بوجه خاص تفعل الأمر نفسه تقريبا، ولا تتصرف في مسائل منح الجنسية إلا وفقا لما تقتضيه مصالحها قبل أي شيء آخر. ولكن الجديد والغريب في الوقت نفسه هو أن يساور البعض ولو القليل من الشك في أن يكون هناك خيط رفيع يمكن أن يربط المانح بالممنوح، أو بين الدولة التي تعطي اللجوء أو الجنسية، وفرد أو افراد يسعون لها ويبحثون عنها.
باريس تجزل التكريم والعطاء لكل من يقدم لها عملا نافعا، أما من لم يقدم شيئا فلا يتوقع منها أن تفتح له ذراعيها وتستقبله استقبال المكرمين
إن ذلك ليس في الواقع سوى سراب يعادل سراب المصلحة المشتركة التي يمكن أن تجمع جلادا بضحيته أو مستعمرا ببلد وشعب كان خاضعا لسيطرته. وربما كشفت قصة الناشط الشيوعي الفرنسي موريس أودان التي سلطت الضوء عنها قبل ايام بعضا من تلك الحقيقة، ودلت على حجم التلاعب الكبير الذي مايزال يمارسه بلد مثل فرنسا بمصائر الشعوب و تاريخهم وبمصير الجزائريين وماضيهم بوجه خاص. فقد وصف كثيرون ما أقدم عليه الخميس الماضي الرئيس ماكرون بالخطوة غير المسبوقة، أو بالالتفاتة التاريخية مثلما كتبت صحيفة “لوموند” لأنه “بعد أن قرر بعد عدة أشهر من التفكير، أن يعترف بمسؤولية الدولة الفرنسية في موت عالم الرياضيات الاشتراكي موريس اودان المناضل من اجل استقلال الجزائر، الذي أوقف ابان معركة الجزائر وعذب من طرف الجيش الفرنسي”، ولكن الصحيفة ذاتها زادت فقالت بعدها أنه “بعد اعتراف ايمانويل ماكرون باللجوء إلى التعذيب، إبان حرب الجزائر فان الحسابات مازالت لم تصف بعد بين البلدين” رغم أن التصريح هو “خطوة حاسمة في عمل الذاكرة البطيء والحساس بين البلدين”. ولئن تقبل كثير من الجزائريين الموقف الفرنسي الجديد بحذر وتحفظ شديدين، وربما حتى بازدراء وعدم اهتمام، فإن السلطات الرسمية رأت فيه وعلى العكس “خطوة إيجابية يجب تثمينها”، على حد تعبير وزير المجاهدين، وقالت على لسان الوزير أيضا إن “فرنسا والجزائر ستعالجان ملف الذاكرة بحكمة”.
لكن السؤال الملح الذي بقي مطروحا بعد ذلك، والذي أعادت زعيمة اليمين المتطرف ماري لوبان طرحه في سياق تعليقها على قرار ماكرون هو، ما الذي سيستفيده رئيس الجمهورية الفرنسية من إعادة فتح الجراح بتناوله لقضية المعارض الشيوعي موريس اودان؟ ومن المؤكد انه لم يفعل ذلك إكراما لعيون الجزائريين، أو لتمسكه بمبادئ العدل والانصاف، فقد كانت الحسابات السياسية الداخلية وربما حتى الخارجية هي الدافع الاساسي وراء قراره. أما ما جعل الجزائر ترحب بالمقابل باعتراف متأخر بأكثر من ستين عاما بجريمة ارتكبها فرنسيون على ارضها في حق مواطن فرنسي، فلا احد يعلم بالضبط إن كان هو التمسك بخيط امل ولو ضئيل في انتزاع قريب لاعترافات أخرى؟ أم التسليم والخضوع للرغبة الفرنسية في طي الصفحة؟ غير أن ما يعلمه الجميع في كلتا الحالتين هو أن هناك حدودا لاقتراب فرنسا مما تسميه ملف حرب الجزائر، وهناك خطوطا حمرا لا يمكن لاي رئيس أو اي حكومة أن تتجاوزها أو تكسرها. فقد منحت فرنسا منذ الستينيات كل المتورطين في الجرائم والانتهاكات التي حصلت في الجزائر عفوا شاملا جعلهم في حل من اي محاسبة أو محاكمة مفترضة. ولم يعد أحد ينتظر من باريس أن تقدم للجزائريين من تلقاء نفسها وعلى طبق، حتى وثائقهم وارشيفهم وجماجم شهدائهم، التي مازالت تحتفظ بها إلى الان. وهي لم تعد بالمقابل ايضا تفوت اي مناسبة أو فرصة حتى تجدد لهم نصيحتها المسمومة بأن يفكروا جيدا في مستقبل احفادهم وينسوا كل الالام التي حصلت لاجدادهم. ولانها ترى كيف يتسابق جزء واسع من اؤلئك الاحفاد نحوها للحصول على الاقامة فيها، أو على جنسيتها، فهي تأمل أن يحذو الجزائريون حذو الشاب المالي “مامودو” ويقدموا لها ما تنتظره منهم من خدمات ليس اقلها نسيان الماضي وشطبه تماما من ذاكرتهم. أما هل ستتحقق أحلامها وآمالها تلك، فليس من الواضح أن الامور تسير حتى الان بالسرعة التي كتبت وانتهت بها قصة “مامودو” التي بدأت ببطولة واختتمت بتجنيس.
* كاتب وصحافي من تونس