عمان- «القدس العربي»: لا بد من قراءة إخفاق الحوار الذي اقامته الحكومة الأردنية وسط فشل ذريع بخصوص قانون الضريبة الجديد بصورة مغايرة وأعمق من الملموس في سطح الحدث. قد لا يتعلق الامر بحكومة تسترسل وتصر على حوارات واضح تماماً لها وللجميع بأنها «تفشل». وقد لا يتعلق أيضاً بشارع يمارس نمطاً من «العبثية « وينجح في الاستعارة والتقمص فيعارض ويمانع ويحتج ويطرد وزراء بدون حتى قراءة نصوص القانون التي تم تنظيم الحوارات اصلاً من أجله. فما الذي يعنيه ذلك عمليا؟
سؤال سياسي بامتياز قد تكون الإجابة عليه بمنتهى الصعوبة والتعقيد لأن المسألة لا تتعلق هنا حصرياً بخصومة مباشرة بين المواطن والوزير- اي وزير- بقدر ما يتعلق برسائل «لعوب»بمنتهى العمق يحتفظ بها الطرفان وهما يسترسلان في مشهد مسرحي سياسي، إلى حد كبير، قوامه شارع يقلد بعضه بدون هدف محدد ومنطقي وحكومة تصر على إكمال وجبة حوار واضح انه فاشل او سيفشل بكل وضوح. ولأول مرة عملياً يطرد مواطنون تم انتقاؤهم بدوائر وزارة الداخلية بنسبة كبيرة وزراء بهذا الحجم حيث اخفق الحوار تماماً في ست محافظات.
ولأول مرة أصلاً تقرر حكومة ما عرض مشروع قانون مهم على الناس مباشرة للحوار بينما كان يمكن لها ان تدفع فقط بإتجاه الحوار مع المؤسسة التمثيلية والدستورية للناس وهي مجلس النواب. فلماذا قرر رئيس الوزراء عمر الرزاز إكمال حوار له علاقة بالشكل فقط ودون الموضوع وسمح مرات عدة لطاقمه الوزاري بتجربة «سلبية للغاية»؟
أغلب التقدير أن لدى الرزاز اليوم «أدلة وبراهين» على مستوى الأزمة التي وصل لها الشارع الأردني ولديه رصيد يمكن ان يعرضه لمراكز القوة في الداخل والخارج لمستوى تراجع المصداقية بين «النهج الاقتصادي للدولة» وبين الجمهور.
هذه الأدلة يمكن ان تخدم بإنتاجية عالية فكرة الرزاز عن ضرورة الاصلاح والاستدراك والتغيير وبصورة قد تمنحه في حال تقررت صعوبة المجازفة برئيس جديد للوزراء بعده وبسرعة «حصانة جديدة» ومن نوع خاص قوامها ان حكومته لا تستطيع إصلاح الموقف والمشهد أصلاً إلا إذا حصلت على صلاحيات وتفويضات متنوعة ومتعددة.
بمعنى آخر سلسة «المضايقات» التي واجهت وزراء الرزاز في المحافظات خلال الاسبوع الماضي لها قيمة وظيفية رفيعة المستوى سياسياً فكرتها ان الحكومة لا تستطيع ان تنجز في ظل التعقيد الشعبي الحالي وان الشارع ليس ضد الحكومة فقط بل ضد النهج وبالتالي على القرار المرجعي ان يمنح الحكومة الحالية تفويضات من نوع متطور ومتقدم تكرس فعلاً هذه المرة «الولاية العامة». طبعاً رؤية من هذا النوع قد لا تكون مقصودة بحد ذاتها وقد تنطوي على»روح مغامرة».
لكن الرزاز نفسه «مغامر كبير» ويهتم بأن يعرف جميع المسؤولين بالدولة العميقة بان تعديل المزاج العام مرتبط الآن بتعزيز صلاحيات حكومته وفريقه لأن مهمة أي رئيس جديد للوزراء ستكون مستحيلة بالمطلق حيث ان حوارات الاطراف المنفعلة حصلت في قاعات مغلقة برعاية أمنية ولم تحصل في حراكات الشوارع.
حجتان باتجاهين للحكومة… وخفايا وأسرار «حوار المحافظات الفاشل»
«إذا اخفق الرزاز .. لن ينجح غيره»..هذه العبارة يرددها اليوم كل المقربين من التيار المدني ومن الحكومة الحالية ونخبة عريضة من السياسيين والمسئولين وهم يصرون على ان الاستمرار لم يعد ممكنا بالطريقة القديمة في إدار الأمور.
ورغم انها عبارة «متذاكية» إلى حد ما إلا انها قد تعكس الواقع لأن الأزمة الاقتصادية الحادة الحالية يدخل فيها الاقليمي والدولي قبل المحلي والوطني ولأن الرزاز يحاول بوضوح تجنب الإثارة قدر الإمكان ويوحي بأن إنسحابه من المشهد ممكن في أي وقت لكي تتراكم أزمة على أخرى بحيث يستحيل أمام أي رئيس وزراء جديد العمل في معالجات من اي صنف بعد الرزاز إذا تقرر ان يغادر الساحة. من هنا يمكن الاستنتاج بان إكمال حوارات المحافظات رغم طرد الوزراء خطوة براغماتية ومفيدة لأنها تسجل «حجة مزدوجة» في اتجاهين.
الحجة الأولى على مراكز القوى في الدولة التي حاولت الحد من طموحات حكومة التيار المدني وبصيغة الدخول قي ازمة متراكمة اذا ما انتهى المشهد الحالي بإسقاط قانون الضريبة وحكومة الرزاز في الوقت نفسه كما حصل مع سيناريو حكومة الملقي.
أما الحجة الثانية فتخص الشارع الذي يمكن ابلاغه ببساطة بالعبارة التالية حكومياً: «حسناً رفضتم الحوار… ليكن، فالحكومة قامت بالواجب» وقد عبرت عن ذلك وزيرة السياحة لينا عناب بعدما صمتت وهي تحاول فهم اسباب انفعال المواطنين وهم يمنعونها من الحديث قبل اعلانها أن الحكومة لا تحتاج أصلاً لموافقة الناس على قانون.
تلك حجتان تقيمهما حكومة الرزاز اليوم في الاتجاهين وهذا بالرغم من فداحة خسائرها الدعائية مع الجمهور ووسط الحراكيين يعزز من رصيدها العميق ويفتح المجال واسعاً امام تعزيز صلاحياتها بعدما تتصرف وفقاً لما يمليه «واجبها الوطني» وليس «شعبويتها» وبصورة تسمح لها بإنهاء جدل الضريبة بنقل الكرة لمرمى النواب وحضنهم. وهذا وضع تكتيكي ايضاً لا يعرف كثيرون أنه قد يفيد ايضاً عند صندوق النقد الدولي الذي تطالب مراسلاته بتحويل التشريع للبرلمان وليس بإقراره.