شاهدت منذ فترة قليلة، الفيلم السينمائي»حياة باي»، المأخوذ عن رواية الكاتب الكندي يان مارتل، التي تحمل نفس الاسم، وكانت قد حصلت على جائزة «مان بوكر» البريطانية منذ عدة أعوام، وترجمت إلى لغات كثيرة كعادة روايات البوكر، منها اللغة العربية بواسطة دار الجمل، لكنها لم توزع جيدا بحسب ما ذكر لي الناشر ذات يوم، كون يان مارتل، لم يكن من الكتاب الغربيين القدامى الذين يعرفهم القراء العرب، وأيضا لأن الكثيرين لم يسمعوا بجائزة مان بوكر، إحدى أهم الجوائز الأدبية التي ابتكرها الغرب، وجاءتنا منها نسخة عربية، أضحت أيضا أهم جائزة عربية، في هذا المجال.
حقيقة كنت قرأت رواية «حياة باي» منذ عامين تقريبا، وأعترف بأنني قرأتها بصعوبة، ذلك إن الدخول إلى النص الحي الذي يشد القارئ ويحبس أنفاسه، ويجعله يركض بين السطور لمعرفة ما سيحدث، تطلب صفحات طويلة من الوصف الروتيني الرتيب لحديقة الحيوان الهندية، التي يملكها والد الراوي، وكيف كانوا يدخلونها ويخرجون منها وأي الحيوانات توجد فيها، مع وصف لكل حيوان وطريقة حياته، ثم بعد ذلك تتعرض للنمر الذي سيشارك البطل قارب نجاة في محيط هادر، النمر مستر باركر كما يسمى، وكان قد أطلق عليه هذا الاسم لأن حارسا للحديقة وهو صاحب الاسم الحقيقي، وصل في نفس توقيت وصول النمر، ووضع اسمه خطأ على قفصه.
قلت أنني قرأت تلك الصفحات الأولى، التي لم تكن قليلة، بشيء من التذمر، أتعجل الوصول إلى نص نابض أمسك به، من أجل متعة القراءة وحين حدث ذلك أخيرا، أصبح العمل طاعما بشكل لا يصدق، وأصبح من غير الممكن، ترك الرواية لحظة واحدة، من دون إكمالها، وهكذا قصة رائعة عن الإيمان بالله، والتمسك بالحياة برغم الإحساس بضياعها، والوثوق بأن النجاة على مقربة، وهي في الحقيقة، أبعد ما تكون.
لقد أمسك الكاتب الكندي بما اعتبرته موضوعا حيويا، كيف تصف الإنسان في قمة ذعره؟ كيف تصنع له تصرفات، وكيف ستكون تلك التصرفات؟
أعتقد أن الكاتب أجاد فعلا، خاصة أن الرواية اعتمدت على الحوار المرعوب بين الصبي المتمسك بقارب النجاة، والنمر الذي يسكن معه هذا القارب. الصبي يعتمد على ما شاهده من كيفية ترويض للحيوان، في حديقة أبيه قبل أن يغلقها ويقرر الرحيل بحيواناته، وتغرق الباخرة التي تقل الجميع، ويحاول أن ينجح في ترويض النمر مستر باركر، والنمر لا يبدو مسالما، وفي نفس الوقت لا يبدو عدوانيا جدا، وهكذا حوار الرعب يستمر أياما وليالي، إلى أن ينتهي بنجاة الصبي. حين كنت أقرأ تلك الرواية، سيطر علي إحساس قوي، إنها تصلح عملا سينمائيا ضخما يعتمد على تقنيات الإثارة الحديثة، فالحوار المرعوب الذي ذكرته، ومهما تخيله القارئ أثناء القراءة، لا يمكن أن يعطي نفس قوته وسحره كما لو شوهد سينمائيا بتقنية بث الرعب عبر الصوت والصورة، كنت حقيقة أتوقع أن يلتقط أحدهم تلك الرواية، ويحولها إلى فيلم، خاصة أن فكرة الإيمان، وطريقة اتباعه والتمسك به، تعد موضوعا جاذبا وحيويا، تمت معالجته كثيرا، وبطرق مختلفة، وحين سمعت بعد ذلك أنها حولت إلى فيلم، لم أفاجأ طبعا.. كنت سعيدا بأنني فكرت بطريقة صحيحة. حقيقة كان الفيلم رائعا بالفعل، وبدا لي قد خدم النص الأدبي جيدا ولم يشوهه كما يحدث أحيانا، حين تنتج الروايات الناجحة سينمائيا. على العكس كانت المؤثرات الصوتية القوية، مبعث نجاح باهر وكبير لحوار الرعب بين الصبي والنمر مستر باركر.
بعد رواج الفيلم بفترة، تابعت وبدافع الفضول أرقام توزيع رواية حياة باي، في نسختها الأصلية، وكانت قد ارتفعت بشكل كبير، كما أنني شاهدت طبعة ثانية بالعربية، للرواية التي ظلت أربع سنوات، أي من تاريخ نشرها باللغة العربية، كاسدة بلا قراء كثر.
أردت القول، إن تحويل العمل الروائي، إلى دراما سينمائية أو تلفزيونية، ليس دائما خيانة له، كما يروج البعض، فالكاتب حين يطرح نصا، هو يطرح فكرة، وأسلوبا، وشخصيات متنوعة، ذلك الزخم يعثر على بعض المتذوقين لكنه لا يشد الدنيا كلها، وحين يأتي كاتب سيناريو أو مخرج سينمائي، ويحول ذلك الطرح المكتوب إلى طرح مسموع، أو مرئي، هو يقدم أسلوبا آخر، سيشد متذوقين من نوع آخر، وهم غالبية كما نعرف، فليس الكل يذهب للمكتبات ويقتني الكتب، لكن الجميع، يمكن بسهولة أن يشاهدوا عملا دراميا وهم جالسون في بيوتهم. ولأن الدراما المرئية، غير الكتابة الأدبية، فلا بد من تغييرات في الرواية، تتناسب مع الطرح الجديد، وهذا ينبغي أن لا يغضب الكاتب، حين يرضى هو بتحويل عمله إلى دراما مرئية.
حقيقة قرأت روايات عديدة، وشاهدتها بعد ذلك أفلاما، ولم أحس بأن الأفلام سرقت عفة تلك النصوص أو انتهكتها، كنت أحس بأنها أضافت للنص المكتوب، لكن بطريقة أخرى، وفي العام الماضي، حول نص روائي لي إلى دراما إذاعية، وكنت سعيدا وأنا أستمع لحلقاتها، برغم الاختلاف الكبير مع النص المكتوب.
الشيء المهم في كل ذلك، هو الفضول الذي ينتاب البعض لقراءة النص الروائي، ومقارنته بالفيلم بعد مشاهدته، وهو فضول كبير ولا يستهان به، وبالتالي توزيع جيد للكتاب، وهو ما حدث مع حياة باي وروايات أخرى، أنتجت سينمائيا.
السينما أداة ترويج مخيف، هذا واقع لا بد من الرضوخ له بجدية، والعمل الروائي الذي تلتقطه السينما سينجح ورقيا بلا أي شك، حين يلتقط المشاهدين الذين شاهدوه مرئيا.
أمير تاج السر