السينما وسلطة الدولة

قاعدة معروفة في مجال السينما، من يمول يملك حق النظر، وهو المنطق الذي حكم ويحكم السينما العالمية، والجزائرية من ضمنها. انهيار الدولة وتوقفها عن التمويل منذ الثمانينيات في الجزائر كان كارثيا، إذ دفع بالعديد من المؤسسات إلى الانهيار، لكنه في الوقت نفسه حررها من الوكالة الخلفية، ودفع بالسينمائي إلى أن يتكل على نفسه حتى ولو ظلت مساهمة الدولة قائمة جزئيا. هذه الوضعية الصعبة سمحت للكثير من السينمائيين بأن يتألقوا مثل: مرزاق علواش، والسيدة صحراوي، وإلياس، وغيرهم، بينما مات جزء كبير في غياب التمويل، مثل لخضر حامينا الذي بقي حيا قليلا بفضل السعفة الذهبية على فيلمه «سنوات الجمر»، أو ظل في محيط الدولة يستجيب لها كلما احتاجته سينمائيا.

مطالب الجيل الجديد السينمائية كانت كبيرة، والحرية المالية النسبية سمحت له بالاصطدام مع مؤسسة السلطة، إذ أصبح ينادي بسينما أخرى أكثر استجابة لمعطيات العصر وأكثر حرية في تناولها للموضوعات الصعبة.

وقطع نهائيا مع أطروحات الانتشاء بالانتصارات ليضع المشاهد وجها لوجه أمام وضع جديد ومعقد نشأ بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال. «عمر قاتلاتو الرجلة» (عمر قتلته الرجولة) لمرزاق علواش، واحد من الأفلام التي تدخل في هذه الخيارات الجديدة، فقد أعاد النظر في اليقينيات التي تأسست عليها السينما الجزائرية.

فيلم بسيط في شكله، لكنه ناقد لحالة الدائرة المغلقة التي حُشر فيها بعض الشباب بسبب الخطاب الانتشائي والوثوقي. من هنا بدأت العملية النقدية الحادة سينمائيا تفرض نفسها بقوة. لكن وسائل هذا الجيل الطموح تكاد تكون منعدمة، فالرغبة كبيرة، والإمكانات منعدمة. فقد حُلَّ الديوان الوطني للإنتاج السنيمائي نهائيا. قيل وقتها لتحرير السينما نهائيا من سلطة الدولة، لكنه في الحقيقة كان تخليا كبيرا عن السينما.

 بدأت السينما التاريخية في الجزائر تجدد نفسها مع الجيل الجديد الخالي من التابوهات، متخطية الكثير من الإحراجات.

وأصبح على السينمائي الجزائري أن يجد مصادر تمويله، ولقد وجدها في أوروبا، وفي فرنسا تحديدا، بعد مقايضات لم تكن دائما سهلة، ثم انتهى أمر السينما الثورية بالمعنى التقليدي. وأصبحت سينما الواقع المرّ، والإرهاب لاحقا، هي المهمين على كل شيء. مع الطفرة المالية بسبب ارتفاع سعر برميل النفط في بداية الألفية الجديدة، تمّ خلق قنوات جديدة للدولة لمساعدة السينمائيين الجزائريين، لكن عادت في الوقت نفسه أجهزة الرقابة التي ضيقت على كثير من الأفلام، لكنها سمحت في الوقت نفسه للعديد من الأفلام بأن ترى النور، على الرغم من بعدها النقدي. ثم جاء مشروع إنتاج سينمائي ضخم يتعلق بقادة الولايات، في زمن الثورة.

كانت الدولة، ممثلة في وزارة المجاهدين، هي الممول الأساسي للمشروع. المشكلة ها هنا ليست في الرقابة، فهي مثل المرض المعدي الذي يخترق العالم، ولكن في الرؤية؟ وهي رؤية رسمية ضيقة لا تفرق بين التاريخ والتخييل، فهي تحكم على الغث والسمين وفق رؤية، وهي الرؤية نفسها التي تخاف من التاريخ وتكتفي بمسح مسطح.

إلى اليوم مثلا لا يوجد فيلم واحد عن الأمير عبد القادر، لأن العمل على الأمير يقتضي قدرا من الحرية، فطبيعة الأمير متعددة دينيا: سني، صوفي، محاور للأديان. وأنقذ أكثر من 15000 ألف مسيحي في 1860 إبان الحرب الأهلية في الشام، وماسوني أو صديق للماسونية على الأقل، ومناضل مقاتل شرس من أجل تحرير بلاده، وصديق مقرب من نابليون الثالث خاض حربا ضروسا ضد الطغيان. نحتاج حتما إلى قدر من الديمقراطية والتفتح لإنتاج فيلم الأمير. الغلاف المالي الذي وضعته الدولة ملخصة في الرئاسة، قبل سنوات، كبير جدا، لهذا بدأت الأطماع تكبر بهدف الاستيلاء على المال بمختلف الحجج التي تبرر النهم المنظم والسرقة. من نتائج هذه النظرة القاصرة انهيار مختلف المشاريع الحقيقية التي قدمت قبل سنوات طويلة.

مشروع النسر الأبيض للأخضر حامينا، ومشروع المرحوم بختي بن عمار عن الأمير الذي لم ير النور قط. ثم انهيار مشروع كتاب الأمير الذي كان سينتجه المنتج المنفذ عبد العزيز طولبي بمشاركة الشركة الفرنسية للإنتاج SFP، وإخراج المخرج العالمي ريدلي سكوت المشهور بفيلمه الموضوعي عن شخصية صلاح الدين الأيوبي: مملكة السماء. ثم مشروع بوعلام بسايح الذي هو عبارة عن محطات من حياة الأمير أكثر منه سيناريو. بعدها أسندت مهمة إخراج الفيلم إلى السينمائي الأمريكي شارل بورنت، مخرج العديد من الأفلام، منها ناميبيا.

أما كتابة السيناريو فتقاسمها زعيم خنشلاوي مع السينمائي الفرنسي فليب دياز.

لكن المشروع بعد خسارات مالية فادحة، لم ير النور. سيناريوهات عديدة تم دفنها في الأدراج دون أن ترى النور، ما يدل على أن هناك يدا لا تريد لفيلم الأمير أن يظهر. حتى أفلام قادة الولايات لم تكن الرقابة رحيمة معها؛ فمثلا الوشاية التي ذهب ضحيتها بعض قادة الثورة تم طمسها في الكثير من الأفلام. وكريم بلقاسم، أبو اتفاقيات إيفيان التي قادت الجزائر إلى الاستقلال، تم اغتياله بعد الاستقلال. اشترط المنتج/ الدولة ضرورة توقيف كل شيء عند حدود اتفاقيات إيفيان، تفاديا للإحراج التاريخي.

بدأت السنيما التاريخية تجدد نفسها مع الجيل الجديد الخالي من التابوهات، متخطية الكثير من الإحراجات التي لم يعد أمامها أكثر من طريقين: إما تحول الممول الجزئي، وزارة المجاهدين، إلى شريك حقيقي في المشروع الذي يستحق الدفاع عنه، أو إلى مؤسسة رقابة بائسة وظيفتها مراقبة الأفلام. بينما كان من الأجدى وترك الأمر للسينمائيين ليتحملوا مسؤولياتهم التاريخية أمام الذاكرة الجمعية.

للأسف، ما إن عاد المال ولو قليلا، رجعت ريما لعادتها القديمة، حتى بدأت الاصطدامات مع المخرجين الشباب. المليارات لأفلام لم تعرض في قاعات السينما تنتهي عند حدود العرض الشرفي الأول. فيلم ابن مهيدي لمخرجه بشير درايس، أثار جدلا كبيرا حول المسموح والممنوع من تاريخ الحركة الوطنية. تريد الرقابة تاريخا مسطحا، وتريد السنيما تاريخا بشريا حتى في جانبه المأساوي والتخييلي. نحن أمة نخاف من تاريخها.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية