تعليم اللغة العربية للناطقين بها

سعيد يقطين
حجم الخط
0

عندما تظل تطرح قضية اللغة، عامة، والعربية، بصورة خاصة، في الأقطار العربية، بشكل أو بآخر، فمعنى ذلك أننا ما نزال بمنأى عن تثبيت أقدامنا على أرضية العصر الذي نعيش فيه، وبعيدين عن الانخراط فيه. إن كل المجتمعات المتطورة في وقتنا الراهن حسمت نهائيا قضية اللغة التي تستعملها في المدرسة، والكتابة، والبحث العلمي… ونقيضها تلك التي ما تزال تبحث لها عن لغة. يتبدى لنا ذلك بجلاء في كون تلك المجتمعات تعتبر العنصر البشري أثمن رأسمال، وتعطي للتربية والتعليم أهمية قصوى في تشكيل هذا العنصر. وعندما نقول التربية والتعليم نقصد بذلك أساسا، وقبل الإقدام على تقديم المعلومات، أو تعميق المعارف، تعيين اللغة التي بواسطتها ينخرط بها الجميع في تمثل الأشياء والتفكير في مختلف جوانب الحياة. وبالمقابل نجد الدول التي تجرب في كل حقبة لغة من اللغات التي تعمل بواسطتها على تأهيل أولادها للتحصيل والإبداع، أو تعطي للغة ما قيمة “رسمية” وتعتبرها تمثيلا لهويتها، وفي الواقع تمارس غيرها أو تفرضها سيان، لا تولي أي أهمية للرأسمال البشري، ولا للتربية أو التعليم.

منذ أن بدأ يطرح في الأدبيات العربية، من خلال مساقات بعض المؤسسات العربية، مفهوم “تعليم العربية للناطقين بغيرها”، أو “تعليمها لغير الناطقين بها”، كنت أمج الاستعمالين معا، ويدفعني إلى طرح عدة أسئلة تتعلق بما هي العربية التي تقدم للأجانب؟ وما هي الأدوات والمناهج الموظفة في ذلك؟ وما هي مستويات ومدارج التعلم؟ وما هي الشهادات الدالة على تملك بعض مقومات هذه اللغة والمراحل التي يمكن أن يقطعها المتعلم للعربية ليكون قادرا على التواصل أو الكتابة بها؟ لم أكن معنيا بتعميق هذه الأسئلة، لأني كنت منشغلا بقضايا أخرى تتعلق باختصاصي، وفي ذهني صور عن اشتغالات المعنيين بالشأن اللغوي. وكنت أتمنى في الوقت نفسه أن نصل يوما ما إلى تحقيق ما صار واقعا في تعلم اللغات الثانية لدى الأمم التي تعتز بلغاتها وتعمل على تعلمها بطرق بسيطة وفعالة، لكل من يود ذلك. وبدا لي مع الزمن أنه بدل أن نتوجه إلى تعليم العربية للناطقين بغيرها، أو لغير الناطقين بها أن نتعلم الحجامة أولا في رؤوس “الناطقين” بها لأني، وهذه حقيقة يسلم بها الجميع، مسؤولين وتربويين، أسلم معهم أن وضعها أسوأ لديهم، وأن من يتعلمها من الأجانب، سواء كانوا ديبلوماسيين أو أكاديميين أحسن حالا منهم بكثير، ولم يكن لطرق التعلم العربية دخل في ذلك.

   فماذا نقصد بالعربية لغير الناطقين بها؟ فهل نقصد اللغات العربية كما هي متداولة في الأقطار العربية؟ أم نقصد العربية الكتابية، أو الفصحى، كما يطلقون عليها؟ فإذا كان الأمر يتعلق بالدوارج صح التعبير لاتصاله بالنطق، وهو ذو بعد شفاهي. وفعلا نجد بعض الأجانب من العديد من الدول الغربية يُبتعثون لتعلم الدارجة المغربية أو الأمازيغية مثلا. ويصبح هؤلاء بالمعاشرة والاتصال قادرين، ولو في مدة قصيرة، مع حصول الرغبة والإرادة، على النطق بها، بلكناتهم، والتواصل بها مع “الناطقين بها”. ومتى أتيح لبعضهم العيش مدة طويلة في أحد الأقطار العربية يصبح قادرا على تجاوز لكنته، والتعرف على خصائص اللهجة التي يتعلمها. أما العربية الكتابية فلا يتعلمها الأجنبي إلا في قاعات الجامعة، وفي شعب اللغة العربية، ولا يمكن أن يتواصل أو يكتب بها، باعتباره صحفيا، أو ديبلوماسيا، أو أكاديميا إلا بعد سنوات من الدراسة والتحصيل.

   ما نقوله عن تعلم اللغة العربية الكتابية ينسحب على أي لغة أخرى. فالمهاجر المغربي الذي قضي عقودا في فرنسا مثلا، سيصبح قادرا على التواصل بالفرنسية “الشفاهية” المتداولة في الحياة اليومية في أدنى مستوياتها. ولكنه إذا لم يتعلم اللغة الفرنسية الكتابية لا يستطيع قراءة رواية، أو كتاب في اختصاص ما، بل ولا حتى على متابعة برنامج تلفزي يتناول قضية من القضايا التي يتحدث فيها المختصون. ينسحب هذا، أيضا، على أي عربي لم ينل حظه من تعلم العربية الكتابية رغم العلاقة الوطيدة بين الدوارج العربية والعربية. نعتبر تعلم العربية الكتابية في مدارسنا ومجتمعاتنا داخلا في نطاق “محاربة الأمية”، التي يمكن أن نعدها مدخلا لتعلم الكتابة. لكن الأمية أميات. فقد يتعلم العربي لغته، ويحفظ القواعد النحوية، وقد يتمرن على الإنشاء… ولكنه في نطاق منظومة تعلمية وتربوية واجتماعية سائدة تظل علاقته باللغة العربية علاقة محدودة وضيقة.

   نسمع في الكثير من اللقاءات والندوات وبرامج القنوات اعتذارات ممن ينتمي إلى أحد الأقطار العربية، من لدن مسؤولين وأكاديميين في اختصاصات متعددة، عن كونهم لا “يعرفون” العربية أو لا يتقنونها، لأنهم مهتمون بلغة أجنبية أخرى، ولذلك فهم سيتحدثون بالدارجة، أو بعربية غير سليمة، صارت لا تثير غير السخرية في الوسائط الشعبية الجديدة. نتحدث كثيرا عن تدني مستوى اللغة العربية، وعن قلة تداول الكتاب، أو انعدام القراءة لدى العرب، بالمقارنة مع الشعوب الأخرى، فمن أحوج بتعلم العربية؟  هل “الناطقون” بها أم الناطقون بغيرها؟

      إن قضية اللغة العربية الكتابية مزدوجة، وهي ذات بعد سياسي وعلمي. ولهما معا انعكاس اجتماعي. يكمن البعد السياسي في التأرجح بين الإقدام على جعلها لغة التدريس لكل المواد، أو لبعضها، أو التردد في جعلها لغة المدرسة. وهذا التأرجح دليل على غياب سياسة تعليمية قارة. والسبب في ذلك يعود إلى هيمنة الازدواجية اللغوية بين الدوارج والعربية، من جهة، وبين اعتبار العربية لغة الدين والهوية، والتي يمكن الاكتفاء بالإحساس على أنها دالة على الهوية، في الوقت الذي يتم التعامل فيه مع إحدى اللغات الأجنبية على أنها لغة العلم والتكنولوجيا والعصر! وهنا يبرز لنا طابع التبعية للآخر ليس فقط على المستوى الاقتصادي، ولكن على المستويات كافة بما فيها التربوي والتعليمي. ويتأكد ذلك في كون كل دولة عربية تتبع “سياسة” خاصة تجاه اللغة العربية وطرق تدريسها، في غياب رؤية موحدة، كما هو الشأن في اللغات الأخرى. ورغم وجود مؤسسات عربية تعنى باللغة فمجهوداتها تظل حبيسة الرفوف والمكاتب، ولا تتحول إلى آليات عملية لتعلم العربية وتعميمها على الصعيد العربي.

    أما الجانب العلمي فيكمن في كون الدراسات اللغوية واللسانية العربية منشغلة بقضايا جزئية، ولم تنتقل إلى مستوى تقديم رؤية جديدة لتطوير النحو العربي، والصناعة المعجمية، بكيفية تجعل طرق تدريسها مؤسسة على تصور موحد، ومتدرج من الابتدائي إلى العالي. فمقررات تدريس اللغة العربية ما يزال بعضها تقليديا، وبعضها الآخر لا هو عصري ولا هو تقليدي. ورغم تطور الدراسات اللسانية العربية فهي ما تزال تغيب الاهتمام بالجانب الوظيفي في تعلم العربية وقواعدها وإملائها وصرفها.

   إن غياب رؤية سياسية يؤدي إلى غياب رؤية علمية، أو إلى تشجيعها، والعكس صحيح. ومن آثار ذلك على المجتمع التأرجح بين الاعتقاد النظري بأن العربية هي لغة الأقطار العربية، لكن عمليا يتوجه التصور العملي إلى الإيمان بأن اللغة الأجنبية هي اللغة التي ينبغي الأخذ بأسبابها لمواجهة العصر. وتلك هي الازدواجية التي لم يتم تجاوزها إيجابيا باعتماد العربية الكتابية أساسا، إلى جانب الاهتمام باللغات الأخرى.

تغييب العنصر البشري، معناه التقصير في التعليم، وعدم الإيمان باللغة العربية.

* كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية