لشاعر مصر صلاح جاهين قصيدة طويلة فائقة الجمال اسمها “على اسم مصر”، وكان جاهين أكثر قادة الوجدان تألقا في عصر جمال عبد الناصر، تماما كما كان جمال حمدان أعظم قادة التفكير، ولا شيء ينافس موسوعته الإعجازية “شخصية مصر”، وكان حمدان كجاهين من الناصريين المتوهجين، وإلى حد مساواة حمدان بين الناصرية والمصرية، واعتبار الانقلاب على الناصرية خيانة لمصر نفسها، ولم يشهد التاريخ تطابقا بين بلد ورجل، كما جرى بين مصر الحديثة وجمال عبد الناصر، فقد كتبت مصر حلمها على اسم عبد الناصر بالذات.
ويبدو تطابق المعنى نوعا من التطرف الأيديولوجي، أو جموح العقل والوجدان، وكان حمدان فلتة عقلية نادرة، وكان جاهين فلتة وجدان باهر، وكلاهما مات بالحسرة وعزلة الاكتئاب، فقد كان الانهيار الذي شهدته مصر بعد عصر عبد الناصر، فوق طاقة احتمال القلوب المرهفة المبدعة، ورحل صلاح جاهين في ما يشبه الانتحار، ومات جمال حمدان من وراء باب شقة سكنية أغلقها عليه بإحكام، وعزلته عن رياح سموم اجتاحت مصر، وظل رحيله لغزا لم تنفك أسراره إلى اليوم، وظل كلاهما ـ جاهين وحمدان ـ من رموز النقاء المطلق، المبرأ من أي ذرة تلوث، أو الميل بهوى النفوس إلى التكيف.
نعم، بدا جاهين وحمدان في خانة حالات الحدود القصوى، لكن الاعتقاد بتطابق حلم مصر واسم عبد الناصر، والإيمان العميق بترادف الاسمين والصفتين، لم يكن ولا يكون ولا سيكون مقصورا على اسمى حمدان وجاهين، بل شمل المئات وراء المئات، من خلاصة عقل مصر وزبدة وجدانها، وهم الكثرة الغالبة من المبدعين والعلماء والفنيين، ومن جمهور المصريين العاديين، فاسم عبد الناصر هو الكلمة المفتاح، ما إن يذكر أو تظهر له صورة، حتى تتداعى معانى الأحلام الكبرى، وأولويات الكرامة والنهوض والتقدم والعدالة، وكان ذلك دأب المصريين بغالبهم الساحق، ليس فقط في عصر عبد الناصر وتحت حكمه، وحتى في أحلك اللحظات وأشدها كارثية، كما جرى في الخروج التلقائي لملايين المصريين في 9 و10 يونيو/حزيران 1967، وفي جنازة الملايين الخمسة مع رحيل عبد الناصر المفاجئ الصادم، وصيحات المحزونين التي صارت نبوءة تحققت بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، التي تلخصت في عبارة تلقائية نطق بها الوجدان الجامع في جنازة العصر غير المسبوقة ولا الملحوقة في ضخامتها، لا في مصر ولا في غيرها من بلاد الله، كانت الصيحة ـ النبوءة تقول في أسى “يا ناصر يا عود الفل / من بعدك هنشوف الذل”، وقد كان، وتحقق التخوف المصدوم حرفيا، بعد الانقلاب على حلم مصر واختيارات عبد الناصر، عقب سكوت مدافع حرب أكتوبر 1973، كانت دماء الشهداء على جبهة العبور لم تجف بعد، وكانت تعبئة جيش المليون جندي لم تنفك بعد، بينما دارت فصول خيانة السياسة لنصر السلاح، وتفكيك حصانة مصر بانفشاخ “انفتاح السداح مداح”، وإطلاق غزوات النهب العام، ودوس “الذين هبروا” فوق دماء الذين عبروا، وإدارة حروب التكفير بعبد الناصر وحلمه، وهي الحملات التى لم تنجح أبدا، ولم تحقق هدفها في إزاحة عبد الناصر من الوجدان المصري، بل زادت من حضوره، رغم غياب الرجل بجسده، وتحطيم حلمه، وبدا اسم عبد الناصر وصورته، وكأنه تميمة المصريين في غالبهم ضد غدر الزمن، فلم تكن للمصريين طلعة إلى شارع ولا انتفاضة روح، وطوال عقود المرارة الطويلة اللاحقة، لم يكن للمصريين من خروج على أحكام المذلة، إلا وكانت صورة عبد الناصر تسبقهم إلى الميادين، وكما جرى في انتفاضة 18 و19 يناير/كانون الثاني 1977، ثم بعدها بعقود في ثورة 25 يناير 2011، وفي موجتها الثانية في 30 يونيو 2013، كان المصريون يعتصمون بصور عبد الناصر، وبأغاني وشعارات عصره، ولسبب بدا موضوعيا تماما، وهو أن صورة الرجل هي أفضل وأبلغ عنوان لحلم مصر بغالب أهلها، وبتمام أشواقها إلى النهوض مجددا، وعلى النحو الذى تستحقه مصر لها المجد في العالمين، ولم يتحقق لها إلى اليوم بسبب إجهاض الثورات.
كان عبد الناصر أول مصري يحكم مصر بعد آلاف السنين من حكم الأجانب، وصاحب دعوة نضجت أفكارها استنادا إلى تجربة
هل من تفسير لحالة التطابق بين حلم مصر واسم جمال عبد الناصر؟ وهل هي رغبة بالحنين في استعادة زمن كان، يدرك المصريون بغالبهم استحالة الرجوع إليه، فما مضى لا يعود، وما يأتى من ماضينا، لا يجيء من مستقبلنا، وهو ما يعرفه يقينا جيش المنحازين لحلم مصر واسم جمال عبد الناصر، لكنهم يعرفون أيضا أنه لا مستقبل بغير ماض نفهمه، ونشد عصب الجوهري فيه، ونتحاشى تكرار عثراته وأخطائه، ونستعيد قيم مشروع عبد الناصر، ونبني عليها، ولم يكن عبد الناصر نبيا، وإن كان وجوده وأثره من جنس أثر الأنبياء، فقد كان عبد الناصر صاحب دعوة تفاعلت مع ظروف، ونضجت أفكارها استنادا إلى تجربة، كان عبد الناصر أول مصري يحكم مصر بعد آلاف السنين من حكم الأجانب، قد يقولون لك إن محمد نجيب هو أول حاكم مصري لمصر، وهذا صحيح صوريا، فقد تولى نجيب الرئاسة بعد ثورة 23 يوليو/تموز 1952، ولكن كمجرد قناع عابر، لجأ إليه عبد الناصر وتنظيمه السري من الضباط الأحرار، ولاعتبارات موقوتة، ثم سقط القناع بعد أزمة مارس/آذار 1954، ولم يكن لنجيب إلا أن يسقط ويذهب، وأن تتكشف الحقيقة، وأن يتطابق المظهر مع الجوهر، وأن يصبح جمال عبد الناصر قائد الثورة هو الرئيس المعلن بعد أن كان ضمنيا، كان كذلك فعليا من أول يوم للثورة، وهو ما قر عميقا في وجدان المصريين بعامة، فقد كان عبد الناصر أول حاكم فعلي لمصر من طينة مصرية خالصة، بعد عشرات القرون من ارتهان مصر لحكم الغزاة والمستعمرين والأغوات والمماليك، وكان عبد الناصر هو الاسم المؤسس لحكم المصريين لمصر، وبدون أن يعنى ذلك نكرانا لمحاولات وثورات سبقت ثورة عبد الناصر، تحطمت كلها على صخرة الحكم الاستعماري الأجنبي، وكان حكم مصري لمصر تغيرا نوعيا هائلا في سيرة مصر منذ عصر الفراعنة العظام، وهو ما أكسب عبد الناصر ميزة في الوجدان المصري، لم يسبقه إليها غيره، فوق أن عبد الناصر لم يكن مجرد حاكم من أهل البلد، بل كان قائدا استثنائيا بكاريزما ربانية، راح يعيد اكتشاف طاقة مصر والمصريين المخبوءة، ويعيد اكتشاف حقائق الجغرافيا والتاريخ والتكوين الثقافي والحضاري، ويربط مصر بجوهر تطورها القومي العربي، ويجعل ثورته ثورة للأمة بكاملها، أزاحت صور الاستعمار البريطاني والفرنسي عن مشرق الأمة ومغاربها، وفي ملاحم تحرير كبرى، حررت المركز المصري للأمة بتأميم القناة وحرب السويس، وراحت تبني نهوضا جبارا، ببناء السد العالي، الذي تحكم به المصريون في غضب النيل المهلك لأول مرة في تاريخهم المديد، وبإجلاء الأجانب عن كراسي السيطرة على الاقتصاد، وبالتصنيع الشامل الذى بلغ ذراه في عشر سنوات بين عامى 1956 و1966، وحققت به مصر معدلات تنمية حقيقية، كانت الأعلى في ما كان يعرف وقتها بالعالم الثالث بما فيه الصين.
كان المتوسط العام لمعدل التنمية 6.7% سنويا بأرقام البنك الدولي، ووصل معدل التنمية السنوي إلى 10% في النصف الأول من ستينيات القرن العشرين، بما جعل مصر رأسا برأس مع كوريا الجنوبية في معدلات التقدم والتنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجي، فوق نشر التعليم والثقافة الرفيعة والثقافة الجماهيرية في الوقت نفسه، وإتاحة أوسع حركة نشر فكري وثقافي وأدبي في تاريخ مصر والعرب الحديث بإطلاق، والقفز بفنون السينما والمسرح إلى ازدهار غير مسبوق ولا ملحوق، وتكوين قاعدة علمية كبرى، وتأسيس الصناعات الحربية والمشروع النووي، وصياغة عدالة اجتماعية شاملة، بالإصلاح الزراعي والتأميمات وإعادة توزيع الدخول والثروات، فقد كان مجتمع جديد ينهض من ركام المجتمع القديم الراكد لقرون، وكانت حيوية مصر قادرة على تجاوز الهزيمة العسكرية الفادحة حين وقعت في عدوان 1967، وأعيد بناء الجيش من نقطة الصفر، وبدأت معارك حرب الاستنزاف بعد أيام قليلة على وقوع الهزيمة، ورغم توجيه غالب موارد البلاد وقتها لصالح المجهود الحربي، فقد ظلت حركة التصنيع تتطور، ومعدلات التنمية تواصل اطرادها، وإن بنسب أقل، بلغت 4% سنويا، في الفترة من 1967 إلى 1969، ثم زادت إلى 5.9% سنويا في الفترة من 1969 إلى 1973، وكانت خرائط توزيع الدخول على قدر هائل من العدالة، فقد كانت عوائد العمل مساوية تماما لعوائد الملكية، كانت التعبئة شاملة تماما، وكان بوسع مصر عبور الهزيمة، كما جرى بالفعل في حرب أكتوبر 1973، لكن رحيل عبد الناصر قبلها، والانقلاب على اختياراته بعدها، أطاح بحلم مصر، الذي كان قطع أشواطا عظيمة، فقد كان عبد الناصر في أرقى لحظات توهجه ونضجه العقلي والعملي بعد هزيمة 1967، وكانت موهبته الفريدة في “التصحيح الذاتي” توالي تجلياتها، كان يعيد النظر في كل شيء، ويوالي نقده الجذري الحاسم لأخطاء وخطايا التطبيق، ويتطلع لإقامة مجتمع مفتوح ديمقراطي تعددي بعد إزالة آثار العدوان، كان يريد إضافة المعنى الديمقراطي لمعاني التنمية والتصنيع والعدالة والاستقلال الوطني المتحققة، ويمهد للتحول المنتظر بإفراغ السجون من المحتجزين السياسيين، وإلى حد أنه حين رحل فجأة في 28 سبتمبر/أيلول 1970، لم يكن في السجون المصرية سوى 273 معتقلا لا غير، كثير بينهم كانوا من جواسيس العدو الإسرائيلي.
وباختصار، كان عبد الناصر أمة في رجل، لم تتح الأقدار والظروف أن يمتد الزمن بتجربته، وإلى أن تصل إلى غايتها النهائية، وجرى قطع الطريق عليها بعد ثلاث سنوات من رحيله، لكن اسمه ظل قرينا لحلم النهوض الممكن، وظل حلم مصر على اسم عبد الناصر، وإلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا.
كاتب مصري
ماذا عن الاعدامات ارجو ان تكون موضوعيا ومن اين اتيت برقم 273