أية عولمة هذه التي يزعم ترامب مناهضتها؟

حجم الخط
0

لم يعد قابلاً للإدهاش أي افتراق عن «الحكمة الأمريكية الشائعة» تنطوي عليه تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بما في ذلك حال الانزياح عن ثوابت كبرى دخلت، أو تواصل الدخول والاستقرار التدريجي، في صلب الفلسفة الرأسمالية المعاصرة؛ التي يُفترض أنّ الولايات المتحدة، ومن قلب البيت الأبيض أوّلاً، تتولى تنشئتها ورعايتها. الأمثلة تكاثرت منذ أن كان الرئيس الحالي مرشحاً لا يُرجّح انتخابه إلا بنسبة ضئيلة، وصار بعدئذ أحد أبرز المنافسين داخل الحزب الجمهوري، قبل أن يهزم هيلاري كلنتون في الجولة الختامية. لكنّ الأحدث في سلوك الافتراق والانزياح كان التصريح التالي الذي أطلقه ترامب، مؤخراً، من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة: «نحن نرفض إيديولوجيا العولمة ونعتنق عقيدة الوطنية»، لأنّ «أمريكا يحكمها الأمريكيون» وعلى «الأمم «المسؤولة أن تدافع عن نفسها إزاء الهجمات التي تستهدف السيادة، ليس من حكم العولمة فقط، بل من أشكال الهيمنة والإكراه الأخرى الجديدة».
صحيح أنّ البغض الذي يزعم ترامب أنه يكنه للعولمة ينسجم مع الخطاب الشعبوي السائد لدى غالبية ساحقة من أنصاره، خاصة في ميدان التمييز (الزائف، بالطبع) بين العولمة والنزعة الوطنية؛ وكذلك، على قدم المساواة، في ميدان آخر يستنهض الشعور الشعبوي، هو ممارسة السيادة عن طريق الحماية التجارية وفرض الرسوم الجمركية. ولكن من الصحيح، في المقابل، أنّ مناهضة ترامب للعولمة ليست سوى ذلك الطراز من ديماغوجية تبسيطية، تزعم إعلان الحق ولكنها لا تستبطن سوى الباطل. فالعولمة، في معانيها الأوضح، تعني اتساع الروابط العالمية على صعيد الدول والأفراد، وتنظيم حياة البشر الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية، ثمّ السياسية استطراداً، على قواعد كونية، لم تعد محلية تماماً لأنها تعولمت وانخرطت في ما سيُسمى «مجتمع العالم». والعولمة تنطوي، في آن معاً، على انضغاط العالم وعلى تكثيف الوعي بالعالم بوصفه مجموعاً كلّياً، وتسفر بالتالي عن توطيد أربعة مكوّنات رئيسية لشرط الوجود الإنساني: المجتمعات (أو الدول ـ الأمم)، النظام العالمي، الأفراد (بوصفهم نفوساً)، ثمّ البشرية قاطبة. ولأنها سيرورة تربط الوعي وتحرّض على الوعي بالارتباط في آن، تستهدف العولمة حلّ الاستقلال الذاتي لأطراف النظام العالمي وأعرافه.
تلك، مبدئياً ومن حيث المنطق، ليست العولمة التي يكترث ترامب بمناهضتها، وحاله في هذا لصيق بحال مناصريه. فماذا عن «الإمبريالية الثقافية»، التي إذا كانت نتيجة مباشرة للطابع الغربي ــ الأمريكي للعولمة كما وُصفت أعلاه، فإنها أيضاً نتيجة مباشرة لتراث الاستعمار القديم والاستعمار الجديد، بالإضافة إلى كونها ثمرة توازنات الضعف والقوّة في النظام السياسي العالمي الراهن. وخير من يصحّ الاستشهاد بآرائه هنا هو دافيد روثكوف، من موقع المدير الإداري لمؤسسة «كيسنجر وشركاه»، أشهر معاقل الاستشارات الكونية الجيو ـ سياسية التي تستخدم عشرات الخبراء، وكبار متقاعدي المناصب الرفيعة في الإدارات الأمريكية، من مرتبة مستشار الأمن القومي إلى وزير الخارجية. هنا يقوم هؤلاء بتحليل شؤون الكون في الماضي والحاضر والمستقبل، فيقترحون على صانعي القرارات السياسية والاقتصادية هذه أو تلك من الحلول الكفيلة بعلاج اعتلال الكون، و.. بترسيخ أنظمته المعولَمة على وجه التحديد. وإلى جانب منصبه هذا، درّس روثكوف العلاقات الدولية في جامعة كولومبيا، وسبق له أن شغل موقعاً بالغ الحساسية في وزارة التجارة أثناء الولاية الأولى للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون.

العولمة تنطوي، في آن معاً، على انضغاط العالم وعلى تكثيف الوعي بالعالم بوصفه مجموعاً كلّياً

إنه، استطراداً، لا يفتقر إلى المؤهلات التي تعطيه الحق في الخروج على أمريكا، ولكن على العالم بأسره أيضاً، بنظرية جديدة تلمّ شتات ما قاله فرنسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ (بل سائر التواريخ غير الأمريكية)، ونهاية الاقتصاد (بل الاقتصادات غير الرأسمالية)؛ وتستجمع شذرات صمويل هنتنغتون حول صراع الحضارات، بدل صراع الأنظمة والمصالح والإيديولوجيات. روثكوف عرض نظريته في الفصلية الأمريكية النافذة Foreign Policy، ضمن محور خاص بالعولمة، وسارت أفكاره الأساسية كما يلي، باختصار شديد: يقتضيه المقام:
ـ تكنولوجيا المعلوماتية، أو بالأحرى انفجار تكنولوجيا المعلومات، هو أبرز مظاهر العولمة الراهنة التي يشهدها العالم بأسره.
ـ الولايات المتحدة هي سيّدة هذه «الثورة»، وهي في طليعة الأمم ـ الدول (بل القوى الكونية الجبارة) التي تتولى تطوير الثورة تلك، وتصديرها. إنها تسيطر تماماً على «أوتوستراد المعلومات»، وأكثر من أي بلد آخر على الإطلاق. فالعالم يتعامل بالعملة الأمريكية، ويرتبط راضياً أم صاغراً بالنظام المصرفي الأمريكي، ويخضع في كثير أو قليل لاشتراطات الإمبريالية الأمريكية؛ فضلاً عن أنه يصغي إلى الموسيقى الأمريكية، ويشاهد التلفزات الأمريكية، ويستخدم البرامج الكومبيوترية الأمريكية، ويأكل الأطعمة الأمريكية، ويلبس الثياب الأمريكية… الأمريكيون يتحكمون في سمع وبصر وذوق ومعدة وعقل العالم، وبذلك فإنّ العالم يتعولم أمريكياً، ويتأمرك؛ بقوّة واضطراد.
ـ ثقافات العالم الأخرى لا تستطيع مقاومة هذا الغزو الأمريكي الشامل المتكامل، و«المشرعَن» بقوانين التجارة والرأسمال والعلاقات الدولية المعاصرة. ولهذا يدعو روثكوف مختلف إدارات البيت الأبيض لاستغلال هذا الوضع الاستثنائي، وترجمة شعار «الولايات المتحدة بلد لا غنى عنه» إلى واقع فعلي يتسيد العصور الراهنة، بما يُطيل عمر «القرن الأمريكي» حتى شعار آخر طويل، ومديد.
ـ لا ديمقراطية، ولا أوهام ليبرالية أيضاً، حول ضرورة إفساح المجال أمام مراكز الكون الأخرى، لكي تترعرع وتحتفظ بهوياتها الوطنية؛ ولا مجال أيضاً أمام فكرة «التعددية»، الرومانتيكية في الجوهر، المنتمية إلى عصور القوميات في الجوهر والشكل، المعرقلة للمزيد من نشر وانتشار العولمة الشاملة.
ـ البديل الوحيد المتاح، بل المطلوب بإلحاح شديد، هو تعميم الهيمنة الأمريكية، وحدها وحصرياً، وعلى صعيد هذا المفهوم الاختزالي للثقافة. ويكتب روثكوف: «قد يجادل الكثير من المراقبين بأنه من غير المستحبّ انتهاز الفرص التي تخلقها الثورة المعلوماتية العالمية من أجل فرض الثقافة الأمريكية على الآخرين. ولكنني أجادل بأن هذا النوع من النسبوية خطير بقدر ما هو خاطئ. ذلك لأن الثقافة الأمريكية مختلفة جوهرياً عن جميع الثقافات الأصيلة في العالم، وهي جماع متجانس من المؤثرات والمقاربات الكونية، وهي منصهرة في خلاصة خاصة تتيح تطوّر الحريات الفردية والثقافات الفردية على حدّ سواء».
ـ تأسيساً على هذه المحاجّة، يتابع روثكوف: «ينبغي ألا يعفّ الأمريكيون عن القيام بما هو في صلب مصالحهم الاقتصادية والسياسية والأمنية، التي ليست في نهاية الأمر سوى مصالح العالم على اختلاف جغرافياته وثقافاته. وينبغي على الولايات المتحدة ألا تتردد برهة واحدة في تعميم قيمها وأخلاقياتها. وينبغي على الأمريكيين ألا ينسوا لحظة واحدة أن ثقافتهم، وحدها ودون ثقافات جميع الأمم على امتداد تاريخ العالم، هي الأكثر عدلاً، والأكثر تسامحاً، والأكثر استعداداً لإعادة تقييم وإعادة تطوير عناصرها، والنموذج الأفضل من أجل مستقبل الإنسانية».
فهل هذه هي العولمة التي يزعم ترامب أنه يمقتها؟ كلا، هنا أيضاً، إلا إذا افترض المرء أنّ شخص رجل الأعمال المتخفي في إهاب رئيس الولايات المتحدة يمكن أن يرفض المزايا الكبرى التي تؤمنها، له ولأشغاله واستثماراته، هذه الصيغة من العولمة. حقيقة الأمر، في المقابل، أنّ سنوات ما بعد العاصفة الهوجاء التي اجتاحت مصارف أمريكا خاصة، وبورصات العالم عامة، قبل نحو عقد (وليس قبل عقود!) أطاحت بقسط غير قليل من جوانب العولمة التي يشير إليها روثكوف، ولها هللت مراكز الرأسمال الكونية. كان ترامب وأمثاله يتدلهون في حبّ العولمة حين خدمت مصالحهم، ثم توجّب أن يعلنوا مناهضتها حين انقلبت بعض شروطها ضدّ مصالحهم؛ وقد لا يطول الزمن قبل أن يرتدوا إليها، حين ترتدّ إليهم!

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية