لاجئون

حجم الخط
0

عند مَقَدم الصيف وبدون مقدمات طلبت منه صاحبة البيت إنهاءَ عُقدةِ الكراء والإفراغَ، فألغى عطلتَه واغتم وحزن. الناسُ في اصطياف وهو قيدَ العمل نهارا والبحثِ عن كِراء مساء، ثم يأوي لبيتٍ انفصل عنه حبله السُّري، فلم يعد يحس به موطنا ولا رَحِما. آه يا أدغال الإسمنت والإسفلت، يا أيتها المدينة العاقَّة المُظلمة رغم الأضواء، اقتسمَك المُقتسمون قبل الميلاد، كأنك مُحتلَّة.
حبيسَ مكتبه ذاتَ يوم حار فتح الفضاء الأزرق. كان يعج بصور المسافرين والسائحين في الأرض. خطرت له فكرة. ما لا يُدرَك جوهرُه لا تَعْدَمُ صُوَرُه. العصر عصر الصورة وقد صارت أشهى من الواقع وأحبَّ من المُصوِّر. ومِن المُصوَّر. بحثَ عن صورةِ سفر قديم فأدرجها على جداره الأزرق. رآها أصدقاؤه الزُّرقُ الافتراضيون فظنوه الآن هناك، شرقَ الأطلس المتوسط أو شمال الكبير مرة أخرى، فباركوا له رحلته وغمره انتعاش السفر.
دام الانتعاش سويعة كان طيلتها يجيبُ هذا ويشكرُ ذاك، ويمازحُ هذه ويدعو لتلك بسفر رائع كسفره. صدَّقَ وهمَه اللذيذ. لكن بعد برهة أخذت تخبو الإعجاباتُ والتعليقات. انتقض حبلُ الوهم وأحاطت به ربقة العادة.. كما بدأ. أحس كأنه أُرْجِع فورا وكرها من إجازته باستدعاء من إدارته، ليعانق الرتابة والتراتُب. انتهى الفيلم القصير كالحلم. الجميل أنه كان حلما مشتركا مشروكا بين خياله وخيالات أصدقائه الزُّرْق كذلك، حتى أولئك الذين يعرفون أنه في حَضَرٍ باركوا له. فوَّضوا له متعة سفر لم يسافروه، أو أشفقوا عليه وطيبوا خاطرَه بأثر رجعي وهم يعلمون مكانه. إذا رأيتَ أحدا يمتطي قصبة مِخياله فقل له هنيئا لك ركوبُ الخيل. وقد يكون أحدُهم بارك له من جبال كليمنجارو أو سري-لانكا أو أرخبيل السيشيل، وهو المسكين حيثُ هو، لم يبرح مقرَّ عمله، كأحد توأمَيْ أينشتاين شاخَ قبل أخيه. ثم انقشع الإحساس المدغدغ في منتصف الطريق وكانَ يحسبه قابلا للتأبيد، وتراءت له الحاجَّة مِن جديد عابسة ترفُض تسَلمَ واجبِ عدم الطرد الشهري.

الأصدقاء الفيسبوكيون فيتامينات. هذا بإعجابه يعطيك فيتامين سين. وهذا يحقنك بالدوبامين. وتلك بنَقرتها تعطيكَ فيتامين دال وهكذا دواليك..

طمعا في طَردِ سِحنتها عن مخيلته وإنعاش النشوة السابقة طفِق يبحث في سلسلة التفاعلات عن تعليق أهمله سهوا كي يجيب عنه فيظهرَ للمتأخرين في الالتحاق فينتبهوا للإدراج، ويقوموا لواجب التبريك بالسفر الميمون والعودة السالمة. مع ذلك هدأت التعليقات وخمدت. ثم لم يزدد هو إلا رغبة في تلك النشوة المستعارة وطمعا في تلك العرَامة والطاقة كذلك. الأصدقاء الفيسبوكيون فيتامينات. هذا بإعجابه يعطيك فيتامين سين. وهذا يحقنك بالدوبامين. وتلك بنَقرتها تعطيكَ فيتامين دال وهكذا دواليك.. كيف يجدد ذلك الشعور؟ الصورة التي أدرج هي الوحيدة التي التقط خلال ذلك السفر القديم، أو المتبقية منه بعد خبطةِ فيروس أو حذفٍ لما زاد عن حاجته البصرية وطاقةِ الهاتف. أعياه البحث، وإذ لم يجد صورة للرحلة نفسها وضع صورة أخرى لسفر سابق كان يبدو فيها شعرُه أقلَّ شيبا. لا ضير. الفضاءُ خيالي وافتراضي ويمكنك أن تفرض فيه ما شئت..
عادَ بعد لحظة ليطل على صفحته. لا تفاعل ولا إعجاب ولا تعليق هناك. لقد أعرضوا عن متابعته. مُحبطا وضع الهاتف ورفع بصره في جدران المكتب الرمادية، ثم تنبه إلى أنه كان قد عطل خدمة الشبكة توفيرا للبطارية. اهتز مكانَه وتناول هاتفه. شغلها. أعاد تحيين الصفحة الزرقاء. فإذا به يجد التفاعل قد بدأ منذ الوهلة الأولى، وفاتته رؤيته في حينِه. فاتته متابعة حُمَّاهُ الفيسبوكية طلبا لارتفاعها عكس حمى الجسد. إعجابات وتعليقات وتبريكات بالسفر المتجدد. طفق يجيب ويجيب، حتى تصرم عمر الصورة الافتراضي. هدأت التعليقات والإعجابات وخمدَت ثانية.. عاد سيرتَه الأولى وسكنت ريحُ الصورة وانفض الغبار. ما زال يمتطي كرسيه ولم يبرح مكانه.
ثم قرر التوقف تعبا، لا اكتفاء. كان في حاجة لاستراحة كي يُغمض الجفن قليلا. «استرِحْ كلَّ ساعتين!» السفرُ الرقمي أولى بالعبارة من الطريق السيار. وضعَ الجهاز بعد أن كتم كل أصواتِه ورناتِه. عيناه أتعبتهما الشاشات وجففت ماءَهُما. صارتا تعطشان. تناول أنبوبا من الدَّرَج فسقاهما دموعا مَخْبَرية معبأة في قارورة صيدلية لا تذرِفُ لفراقِ حبيبة ولا لارتقاء شهيدة. ثم أغمض عينيه قليلا.
نبهتْه رعشة من غفوةٍ أخذته فوق الكرسي. كأنهُ رأى وجه الحاجَّة عابسا. سارع إلى فتح الفضاء الأزرق ليُغرق وجهها الكابوس في كتاب الوجوه. صار ذلك طقسا من طقوسه. فإذا به يرى صورة حياةٍ ميتة. كانت حياة مسجاة في سَفرها الأبدي الذي تستحيي منه صورُ الناس وأسفارُهم وتصغر وتضمُر. لم يدر هل رأى بجانبها أسلاكا شائكة وعَجَلات ملتهبة وحجارة، أم رأى أمواجا تعزف سمفونية الجزر المستديم، يرافقها صدى محَّاراتٍ وأصداف فارغة مهجورة من ساكنيها. كانت حياة تمسك شيئا في يدها. كأنها عجوزٌ فلسطينية تمسك بما تبقى من قوةٍ مفتاحَ بيت عتيق في يافا أو حيفا يأبى أن يندثر طيفُه كما اندثرَ بناؤه.. أو لعله مفتاح بيت على جبل عقيم مطل على البحر المُنتَظر. ما زال في مِلكِيَّةِ أهلها، لكنه لم يعد يلهم البقاء. ولا حتى العودة بعد الهروب، حتى إن سلِمَ الهروب. لم تحتج حينها عيناهُ لدمع القارورة المَخبري المستعار. الدمع الحقيقي الحارّ تولى المهمة. كل شيء إلى زوال. الرهن والكراء والمِلك. وحتى المُلك. وقد تنجو الصُّوَر. إلى حين..

٭ قاص مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية