في الصفحة التي تسبق ابتداء الفصل الأول من كتابه، نشر فلاديمير نابوكوف صورة لمنزل عائلته في مدينة سانت بطرسبرغ (التي تحولت إلى «لينينغراد» عقب ثورة 1917 البلشفية قبل أن تعود إلى تسميتها الأولى إثر سقوط الاتحاد السوفييتي). هو منزل فخم يكسوه الغرانيت الوردي وتزيّنه الرسومات الجصية وبعض الزخرفة الإيطالية. في الداخل كان خدم كثيرون يعملون في خدمة العائلة (ورد في مكان ما من الكتاب أن عددهم يقرب من الخمسين)، يضاف إليهم مربّون ومعلّمون لتدريس فلاديمير وأخوته. بالطبع كانت للعائلة بيوت أخرى، ليس فقط في داخل روسيا، بل في أنحاء أخرى من بلدان أوروبا.
في الصفحات التي اختصت بتاريخ آل نابوكوف رجع الكاتب إلى بداية القرن الرابع عشر. أولئك الأولون كانوا قادة عسكريين وأمراء وملاكي أراضي مترامية. لم يُذكر في الكتاب الذي حرص على التعريف بالسابقين من رجال العائلة، حتى الجدّ الأبعد، مَن منهم بنى البيت الذي قضى فيه فلاديمير طفولته والسنوات الأولى من شبابه. في سنة 1917، وكان في الثامنة عشرة من عمره، جرى تأميم البيت بينما كانت العائلة خارج بطرسبرغ متخفّية مما قد يحمله عنف الثوريين الاشتراكيين. لم يكن والده مؤيدا للقيصر، بل كان عضوا قياديا في حركة الديسمبريين المعارضة. لكن كان يعلم أنه مقبل على خسارة أملاكه وثرواته.
الابن الأكبر، فلاديمير نابوكوف، يكتب بالتفصيل الدقيق عن كل ما جرت خسارته بالتأميم. في صفحة من الكتاب يذكر كيف أن أباه بات معدما فور وقوعه، وفي صفحات قليلة أخرى يشير إلى مساعدة تلقتها العائلة من بعض الذين كانوا يعملون في خدمتها. أكثر من نصف صفحات الكتاب خُصّص لذكر تفاصيل العيش في ذلك الزمن الأول، جنّة ما قبل الاشتراكية. لقد أحيت الثورةُ الهويةَ الروسية في وعيه، رغم أنه، كما يذكر مرات، كان يحسن التكلم بلغات أخرى، أولها الإنكليزية، بأجود مما يحسن التكلم بالروسية. ولنضف إلى ذلك ثقافته الغربية، حيث يذكر في الكتاب تأثره بكتّابها بما يغلب معرفته بكتّاب روسيا. كانت صلته بهؤلاء الأخيرين، وبينهم بوشكين، عائدة إلى الصداقة العائلية أو القربى العائلية. لكنه، كما في الكتاب أيضا، عاد في منفاه، أو في منافيه كما يقول، ليؤسّس علاقة عميقة مع الأدب الروسي.
«هناك ليال يحدث لك فيها أنك، ما أن تنام، حتى يطير بك السرير نحو روسيا» يقول متذكّرا طفولته فيها. في بريطانيا التي أقام فيها ثلاث سنوات، وفي فرنسا التي كان كثير التردّد عليها، ثم الولايات المتحدة التي صار مواطنها، ظلّ يذكّر بأن خلافه مع «الديكتاتورية الروسية»، منذ 1917، لا علاقة له أبدا بانتزاعها ملكية أهله، بل بإحساسه المتضخّم بطفولته الضائعة. هناك في البلدان الكثيرة التي تنقّل بينها، كان يشعر بالغربة «بين غرباء غير مبالين أبدا. «فرغم أننا استخدمنا أدواتهم، صفّقنا لمهرجيهم، وقطفنا ثمر أشجار التفاح والخوخ المزروعة على جوانب طرقاتهم، إلا أنه لم يُخلق بيننا وبينهم تواصل حقيقي وغنيّ».
في مقدّمته يذكر نابوكوف أن الفترة الزمنية التي يغطّيها كتابه هي 37 سنة تمتد بين 1903، حيث كان حينها في الرابعة، و1940، حين هاجر إلى أمريكا. لكن، حسب ما يرى قارئه، هناك غلبة واضحة للزمن الأول، حيث ينفتح التذكّر على كل شيء، تفصيليا بل إمعانا في حثّ الذاكرة على أن تعود لتحيي ما غاص في قاعها أو تلاشى. وهو، في أحيان كثيرة، يذكر كيف أنه أفلح في استنطاق ذاكرته أمورا كان ظنّ هو نفسه أنها كانت قد سقطت أو أنها لا أهمية لها. سنوات ما بعد روسيا قليلة الذكر في الكتاب. ولننظر إلى التبويب (الذي ينبغي استخلاصه وتعيينه طالما أن الكتابة تنقل التذكّر مختلطا ومتداخلا) لنرى كيف أن السيرة، التي من المفترض أنها تتقدّم في الزمن إلى الأمام، دائمة النزوع للرجوع إلى الوراء، إلى حيث زمن الطفولة واليفاعة في روسيا.
أما التبويب، بعد التمكن من استخلاصه، فهو يجري هكذا: البيت، ثم البيوت الأخرى في روسيا وخارجها، ثم عائلة الأب، وعائلة الأم، ثم المعلمة التي يرد ذكرها باسم «الآنسة، ثم الفراشات التي كان يصطادها في روسيا، واستمر في ملاحقتها في عدد من البلدان التالية، ثم عشقه الأول في عمر مبكّر، العشق البريء الذي يدفع، عكسيا، إلى تذكّر روايته «لوليتا»، ثم عشقه التالي لمن اسمها «تامارا»، ثم تذكّره لأبيه، ثم اشتراكه في المباريات المدرسية للعبة كرة القدم، واختصاصه بحراسة المرمى الذي كتب في وصفه أجمل مقاطع الكتاب.
لا ذكر للعائلة، عائلته هو، زوجته أو أولاده ، ولا لأي علاقة أعقبت قصة العشق بينه وبين تامارا. ربما لأنه أوقف سيرته عند محطة ما، عمر الواحدة والأربعين. كما لا ذكر تفصليلي لكتابته هو. مرة واحدة أتى، وبشكل عرضيّ، على ذكر روايته «لوليتا» التي هي واحدة من الروايات الأكثر شهرة في أدب العالم. لم يقف عند ذلك الجانب من شخصه وحياته، ذلك الجانب الذي يرجع إليه دافع نابوكوف لكتابة سيرته في أي حال.
وهذا على الرغم من القيمة الكتابية الرفيعة لهذه السيرة التي رأى البعض أنها من بين أهم ما كَتَب. في مكان ما منها يذكر لنا الثمن الباهظ الذي يدفعه المحب لماضيه حين يبسطه ليكون مشاعا للآخرين.
يقول مثلا إن دفء هـــذه المشاعر يظــــل متقــــدا، لكن، بعد كتابتها، تفقد استعادتها جاذبيتها الأولى. كأن ما يفعله كاتب السيرة هو التجسّس على نفسه، لصالح آخرين هم قرّاؤه، أو لصالح ما يظنّ أنه مزيد من البقاء له، لاعتقاده أن أدبه يقصر عن أن يقوم بذلك وحده.
*«تكلمي أيتها الذكريات» هو سيرة ذاتية مراجعة لفلاديمير نابوكوف، صدر عن دار الجمل بترجمة حنان يمق في 350 صفحة، سنة 2018.
٭ روائي لبناني