أمريكا المهزومة

ربما لم يعد لأمريكا سوى لغة ترامب الفظة السوقية، وادعاء المقدرة والجبروت حيث الضعف المخزي، فواشنطن تخسر استراتيجيا في كل مكان، تخسر في الشرق الأقصى أمام الصين، وتخسر في سوريا والهند أمام روسيا، وتخسر في العراق أمام إيران المحاصرة، التى قد تنهكها عقوبات الاقتصاد المتلاحقة، لكنها تبدو صامدة ببركة تحالفاتها مع الصين وروسيا، ويصورها ترامب نفسه كوحش أسطوري قادر على احتلال الشرق الأوسط في 12 دقيقة لا غير.

نعم، قالها ترامب بالنص، في حفل انتخابي تمهيدا لاقتراع التجديد النصفي للكونغرس، ليس المستمع فيه بأعقل من المتحدث، ولا فرصة لأحد لأن يتوقف أو يراجع ما يقال، أو أن يكشف ما فيه من شطط عقلي فادح، فالمواطنون الأمريكيون العاديون مشهورون بالجهل السياسي، وانعدام المعرفة بالعالم، ووعيهم محلي جدا، ولا يفهمون سوى لغة الدولارات، التي لا يجيد ترامب سواها، فهو كتاجر عقارات يزين لهم الصفقات، ويعدهم بجبال من تريليونات الدولارات، وما من بضاعة انتخابية عنده، غير العودة لاستعراض هزلي متكرر، لا يأتي فيه غالبا على ذكر الصين ولا روسيا، فهو يعرف أن اللعب مع الكبار له حدود، ويكتفي بالتراقص البهلواني أمام جمهوره، والتضخيم المجاني لخطر إيران الساحق، إلى حد ادعاء قدرة طهران على احتلال الدول العربية المجاورة كلها في 12 دقيقة، وهو خطر يدعي ترامب أنه يمنعه، ويقدم الحماية لدول الخليج العربية الضعيفة الغنية، وبالذات لأكبر وأغنى دولة فيها، وهو ما يفسر ولع ترامب بالابتزاز العلني، وطلب التريليونات مقابل الحماية، ليس من حكام السعودية فقط، وقد تسابقوا زرافات ووحدانا للدفع، وتعهد كبيرهم بصفقات لصالح واشنطن، بلغت قيمتها 400 مليار دولار، بينما دفع الآخرون مئات المليارات، وتعهدوا بحسن تمويل ورعاية القواعد العسكرية الأمريكية، والتسابق إلى استضافتها، وكأنها نعمة الرب المنقذ الحامي من إيران.

أمريكا لم تعد وحدها حاكمة بأمرها في مجريات الدنيا، بل تنازعها موسكو عسكريا، والصين اقتصاديا

وهو ما شجع ترامب على استمرار اللعبة، وطلب التريليونات بعد مئات المليارات، وتهديد التابعين بخطر السقوط في أسبوعين، لو تخلت عنهم أمريكا، وتركهم على حافة الغرق، بسحب عدد من بطاريات “الباتريوت” الأمريكية، وعلى أمل تسليم ما تبقى عندهم من فلوس، وهو وضع كارثي، فوق ما ينطوي عليه من إهانة غير مسبوقة لتوابع أمريكا، فلم يبق لهم ترامب خيارا سوى دفع الفواتير، وبالأرقام التي يقدرها، وقد يزيد الحساب أضعافا، بعد ملابسات قضية جمال خاشقجي، فأمريكا اقتصاد مدين بنحو عشرين تريليون دولار، وهي تريد تسديد ديونها من جيب المدمنين على حمايتها الموهومة، وهي لا تحميهم أبدا، بل تضعهم دائما تحت وطأة الشعور بالخطر الإيراني، ومن دون أن تجازف بشن حرب عسكرية لا تستطيعها ضد إيران.

 والحقيقة، أن ما يفعله ترامب، على فظاظته غير المسبوقة، ليس جديدا على السياسة الأمريكية، فقد لعبت أمريكا من قبل بورقة خطر عراق صدام حسين، وابتزت ممالك الخليج، ودفعوا جميعا، وتحملوا فواتير حرب أمريكا لغزو واحتلال العراق، وكانت النتائج في الحساب الختامي لصالح إيران، التي أضافت العراق عمليا إلى أملاكها، ومن دون أن تدفع فلسا واحدا، بل أضافت ثروات العراق إلى خزائنها، وتبادلت الشد والجذب مع نفوذ المحتل الأمريكي للعراق، ونصبت حكاما للعراق الممزق، يستقون وحيهم من طهران قبل غيرها، وهو ما بدا ظاهرا في اختيارات الرؤساء الأخيرة في العراق، فقد فازت طهران على واشنطن، رغم وقوف المال الخليجي وراء الضغوط الأمريكية، لكن القصة انتهت، وقد فازت إيران ثلاثة صفر على أمريكا في المباراة العراقية، ونصبت رؤساء جددا للجمهورية والبرلمان والحكومة من الموالين لطهران، وبنت جدار حماية جديدا  حول أراضيها، وأجرت استعراضات صاروخية قصفت شرق سوريا، الذي تقيم عليه القوات والقواعد الأمريكية بمعية الأكراد، وهو ما بدا معه أن لحم إيران شديد المرارة في فم أمريكا، فوق أن واشنطن لا تستطيع ولا تريد خوض حرب لاحتلال إيران وإسقاط نظامها، لا تريد لأن إيران ليست صيدا سهلا، وليس بوسع واشنطن تحمل تكاليف حرب خاسرة جديدة، بعد أن آلت إلى خسران واستنزاف مالي مريع في حربي العراق وأفغانستان، وبغير أمل قريب ولا بعيد في النصر، صحيح أن إسرائيل تريد من واشنطن خوض حرب عسكرية ضد إيران، ودول الخليج الأغنى أيضا تريد الحرب نفسها، ولا مانع عندها من دفع الفواتير منقحة ومزيدة، لكن ترامب يريد استلام التريليونات من الدولارات من دون أن يخوض حربا، يريد أن يتلقى الحساب بغير أداء المهمة المستحيلة، فإيران ليست وحدها، ومعها روسيا والصين ودول أوروبية حافظت على الاتفاق النووي، وأنشأت نظام مقايضة مالية، تلتف به على عقوبات الاقتصاد الأمريكية الساعية لخنق طهران، فوق أن الحساب العسكري في المنطقة لم يعد لصالح واشنطن، فقد صارت ورقة سوريا كلها تقريبا في جيب روسيا، وفشلت محاولات دفع موسكو لصدام مع طهران، فروسيا تلعب أوراقها بمهارة وكفاءة وأستاذية، ويكفيها أن تسلم إيران بأولوية اعتبارات موسكو، مقابل تقديم الحماية للوجود الإيراني في سوريا، ولدور قوة حاسمة كحزب الله في لبنان، ومع كل حادثة تبدو كخسارة لروسيا، يزيد النفوذ الروسي في سوريا أضعافا، فمع تورط تركيا في إسقاط مقاتلة روسية ذات مرة، حولت موسكو الأزمة إلى فرصة ذهبية، ولم تكتف بالاعتذار التركي، بل طوعت نفوذ تركيا في سوريا، وطوت طموحات إردوغان تحت جناحيها، ومع تورط إسرائيل في ملابسات إسقاط طائرة استطلاع روسية بصاروخ سوري، حولت موسكو الخسارة إلى مكسب جديد، وفرضت ما يشبه إغلاق المجال الجوي السوري، وزودت دمشق بصواريخ “إس ـ 300″، ولم تأبه بصراخ واشنطن وتل أبيب، وأضفت حماية على الوجود الإيراني الذي تستهدفه إسرائيل في سوريا، ولم يعد ممكنا لإسرائيل، أن تغير على سوريا بطائراتها، إلا أن تحصل على إذن مسبق من موسكو، فقد صارت روسيا صاحبة الأمر والنهي في المشرق العربي كله، وجعلت القواعد الأمريكية شرق سوريا في وضع الرهينة، وهو ما يعني ببساطة، أن فرص واشنطن في شن حرب عسكرية ضد إيران صارت شبه معدومة، وهو ما تستفيد منه إيران كتحصين إضافي، يفيدها في مرحلة اختناق الاقتصاد بسبب العقوبات الأمريكية، فقد صارت سوريا، وما جرى ويجري فيها، معملا لاختبار وصناعة قواعد التوازن الدولي الجديد، الذى تخسر فيه واشنطن باطراد، وتكسب موسكو على طريقة عقد صفقات “إس ـ 400” الأخيرة إلى الهند، وقد مضت فيها نيودلهي، رغم التحذيرات الأمريكية خشنة اللهجة.

أمريكا لم تعد وحدها حاكمة بأمرها في مجريات الدنيا، بل تنازعها موسكو عسكريا، وتنازعها الصين اقتصاديا، وتحالف “موسكو ـ بكين” يدوس على أعصاب أمريكا في مفاوضات نزع السلاح النووي مع كوريا الشمالية، وإلى حد أن ترامب لم يعد يأمل سوى في نظرة عطف من “كيم” الثالث رجل كوريا الشمالية، الذى يستقوي بدعم موسكو وبكين الضمني، ويلاعب أمريكا بالقطعة في رقصة “ستربتيز” سياسي.

هل يعني ذلك كله شيئا بالنسبة لأحوال منطقتنا المنكوبة؟ نعم يعني أشياء كثيرة، أولها أن الاعتماد على أمريكا أقرب طريق للخسران المبين، ليس فقط بخسارة عوائد البترول الخليجي، التى يريد ترامب الاستيلاء عليها بالجملة، وبلغة فظة آمرة، لا تحتمل تأويلا، وقد لا يفهم ذلك حكام الخليج، الذين أدمنوا منح العطايا والهبات من مال الشعب الذي احتكروه، لكن المنطقة العربية ليست وقفا على حكام الخليج، ولا يليق أبدا أن تكون كذلك، فهم يذهبون بالمنطقة إلى هاوية سحيقة، ويفضلون خدمة إسرائيل على التصالح والتفاهم مع إيران، ومن دون نتيجة عملية أكيدة سوى زيادة نفوذ إيران، وهو ما لا يصح أن تندفع إليه دول كبرى في المنطقة كمصر، التي غاب دورها القيادي طويلا، ويراد دفعها اليوم إلى ما يسمى “تحالف الشرق الأوسط”، وهو حلف ناتو مصري ـ خليجي بإشراف أمريكا، وبهدف وحيد، هو إذكاء الحرب مع إيران بالوكالة عن واشنطن، وهو حلف بائس إن قام، لن يكون مصيره أقل بؤسا من أحلاف أقامتها أمريكا ضد مصر نفسها في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ولا نتصور أن مصر سوف تتورط في الحلف الجديد المثير للريب، وقد أفشل خليجيون مشروعها لإقامة حلف عربي خالص باسم “القوة العربية المشتركة”، بينما هو الحل الأفضل للعرب في خرائط العالم الجديد.

كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول العربي:

    علي الرغم من هذا فانا اري ان وجود قوتين عظميين ربما في بعض الاحيان شيء صحي حتي لا تنفرد دولة بعينها في مصير الدول الصغري ولكن في نفس الوقت فانه علي حسب معرفتنا بالتاريخ فان الانظمة الدكتاتورية هي التي حافظت علي بقائها ايام الحرب الباردة وكان من عاشر المستحيلات ان تقوم ثورة علي حاكم مستبد يلقي الدعم من طرف من الطرفين بطبيعة الحال!
    نحن لعبة في يد هذه الدول وسنبقي كذالك الي ان يفهم مثقفينا ان الاعتماد علي التاريخ كان التاريخ المعاصر اي من جيل عبد الناصر الي الان او تاريخ الخلافات الاسلامية المتعاقبة من قبله سيبقينا في التاريخ ولن يخرجنا الي الحاضر !
    الخلافة انتهت وعبد الناصر ذهب الي رحمة الله والان يجب ان يخرج حل اخر يلائم العصر الذي نعيش فيه .فلا نريد ان نعيش علي تناقض الدول العظمي ولا علي الفتات السياسي و العسكري الذي يمنحنا اياه هذا التناقض وانما نريد طريق جديد يعطي الشعوب حقوقها في العيش الكريم والحرية في كل شيء شخصي والبعد عن القيود التي تفرضها معتقدات البعض وتررهات اخريين! .زمن الشعارات ولي الي غير رجعة لانه لم يوصلنا الا الي الحضيض!

  2. يقول الكروي داود:

    على العرب إحتواء إيران بإحتواء ميليشياتها الطائفية بالمنطقة! أي لا داعي لحرب مباشرة معها !! ولا حول ولا قوة الا بالله

إشترك في قائمتنا البريدية