كنّا نخشى ونحن تلامذة في المدارس والمعاهد وطلبة في الجامعة أن يكتب لنا المدرسون على ورقة الامتحان عبارة «خارج الموضوع»؛ عبارة تعني قبل كلّ شيء الحطّ من العدد المسند إلى أدنى المستويات، وأنّ الممتحن كان في وادٍ غير ذي زرع، ولكنّها تعني من قبل ومن بعد أنّ للموضوع الذي اختبرنا فيه داخلا وخارجا، وأنّ الوقوع في الخارج سقوط مُخْزٍ ونفيٌ خارج أسوار الموضوع وأنّ الخروج عن الموضوع هو أشدّ خطرا من الخروج على الإجماع عند الفقهاء أو النّحاة.
ليست عبارة «خارج الموضوع» عربية الرّوح ولا قديمة الثياب هي عبارة غريبة نشأت طفيلية وترعرعت في خصب تربتنا المدرسية؛ الثقافة العربية القديمة كانت في أغلبها ثقافة موسوعية ولم يكن للموسوعية حدود تلتزم بها فمن الممكن أن يحدّثك النحوي عن الفقه والفقيه عن النحو والبلاغي عن العروض؛ وكان الاستطراد القليل أو الكثير مباحا ولم يسمّه أحد خروجا عن الموضوع. أمّا الأدب فكان يستملح «الأخذ من كل شيء بطرف» ولولا الاستطراد فيه ما وجدت آثار بأكملها، فعلى سبيل المثال كتب أبو العلاء «رسالة الغفران» بقسميها الرحلة والردّ، وكان يعي أنّه كان يسير في الرحلة «على غير منهج» وحين كُتب للرحلة أن تتمّ قال: «قد أطلت في هذا الفصل ونعود الآن إلى الإجابة عن الرسالة» (رسالة الغفران).
للموضوع في أيّ سياق علمي أو أدبيّ مقوّمات لغويّة وفكرية تصنعه وتسيّجه، فالعلوم مثلا تسيّجها مفاهيمها ومتصوراتها ونظرياتها وأحكامها، ويبدو في رأي كثيرين أنّ دور اللغة فيها قليل، وهذا تصوّر يفصل بين اللغوي والفكريّ، وساد هذا التصور آمادا، لكنّه تصوّر ظالم لدور اللغة أو للدور الإعلامي عموما في الخطابات العلمية، والغريب أنّ الانتباه لخروج العالم عن الموضوع عادة ما يحتجّ له بالوسائل اللغويّة. فمن أبرز أدلتها الجهاز الاصطلاحي وهو دليل لغوي يكون شاهدا قويا على مغادرة موضوع الاختصاص إلى غيره، بأن يستعمل العالم عبارات لا تنتمي إلى حقل اختصاصه أو تشترك فيها مع غيره، فعلى سبيل المثال كان النحاة العرب خارج أطر بحثهم، حين تحدّثوا عن المنطق وناقشوا مسائل الظاهر أنّها مشتركة دخلوا إليها من بوّابة المشترك الاصطلاحي.
في السياق المدرسي يعني الخروج عن الموضوع تفريطا في المنهج القويم؛ والمنهج هذا مسألة عويصة حتى لكأنّها مسألة من الماورائيّات الهلاميّة. أغلب حرّاس حدود الموضوع والمسجلين خطايا الخروج منه يسعون إلى تبرير الخروج بذكر أدلة على عدم الارتباط بالمنهج الذي قدّروا أنّه المنهج القويم، ولكنّ أغلب الأدلّة تظلّ تقديرا وتعييرا. في العلوم الإنسانية تظل مسألة المنهج مسألة ذوق علمي، فلا هو علميّ خالص، كما في مناهج العلوم الصحيحة ولا هو ذوقي خالص الذوقية، كما الشأن في تذوق الفنون والآداب؛ لذلك تظل كثير من التسميات المنهجية في هذه الاستعمالات أحيانا بدون مسمّى دقيق.
أغلب حرّاس حدود الموضوع والمسجلين خطايا الخروج منه يسعون إلى تبرير الخروج بذكر أدلة على عدم الارتباط بالمنهج الذي قدّروا أنّه المنهج القويم، ولكنّ أغلب الأدلّة تظلّ تقديرا وتعييرا.
قلّما درّسونا وقلّما درّسنا شيئا عن أدلّة الخروج على الموضوع خطابيّة يمكن أن تكون حججا من داخل الخطاب عن الخروج؛ أدلتنا إن وجدت هي أحكام عامة بها كان الخروج عن الموضوع جناية بلا دليل وبالتالي كان الدخول في الموضوع مكرمة بلا شاهد.
كثير ممّا يصطلح عليه بالخروج عن الموضوع هو سوء فهم للموضوع. وسوء الفهم ليس مسؤولية أحاديّة الجانب حتى إذا كان الممتحن المقصّر الوحيد. إن لم أفهم موضوعا في سياق مدرسيّ فيعني أنّي لم أتمثّل أطروحاته جيّدا وعندها إمّا أن تكون أدواتي الإدراكيّة أقلّ من ذلك المستوى، وإذن فماذا أفعل في مستوى لا أستحقّه؛ وإمّا أنّ السياق المدرسي لم يسمح لي، أنا ضعيف الإدراك، بأن أستوعب مسائل الموضوع مثلما يستوعبها غيري أو أنّ خطابَ مُدرّسي هو أعلى درجة مني فإذن المسألة بيداغوجية تعليمية فيها شيء من عجز الطالب عن استيعاب خطاب تعليمي لا يوضّح كثيرا أو لا يوضّح إلاّ لفئة عالية الإدراك. وعندئذ حين يكتب لي «خارج الموضوع» بمعنى أنّني لم أفهم هل أنا الوحيد الجاني في الحكاية؟
حين لا أفهم يمكن أن يكون ذلك موقفا مني ممّا يعلّمونه لي، أو من لغة التعليم التي ينقلون بها المعارف. فكيف أتعلّم مثلا بلغة أجنبية لا أتقنها جيّدا أو لا يتقنها معلّمي، والخَسَار الأكبر حين أكون أنا أفضل مستوى في اللغة من مدرّسي فسأمضي الوقت في الصيد والقنص: صيد أخطائه وقنص عثراته؛ وعندها هل سيظل عقد الثقة الذي يربطني بالمعرفة عبر مدرّسي قائما؟ القناة التي ننقل بها المعارف خيط ضعيف في تعليمنا بما فيها اللغة الناقلة والأسلوب الناقل؛ نقاط ضعف في درسنا قد تكون من أسباب تعطّل الفهم الذي يكمن وراء ما يسمّى «الخروج عن الموضوع».
لماذا لا يكتب أستاذ الرياضيات حين يخطئ الممتحن «خارج الموضوع» فهذه عبارة غير ذات موضوع في هذا الاختصاص. يكافأ التلميذ على التمشي الصحيح حتى إن كانت النتيجة خاطئة؛ بينما يتسقط أستاذ الآداب والإنسانيات عثرات الممتحن ويعدّ العمل خارج الموضوع؟ لماذا حين يكون الممتحن مخطئا في الرياضيات يقتنع بخطئه عند الإصلاح، ولا يشعر بالفاجعة التي تصيبه بها ملاحظة من كتب في امتحان الآداب خارج الموضوع؟ هل الآداب حقّا خلافيّة وغير دقيقة الحدود إلى هذا المستوى؟ أم أنّ مناهجنا في تعليمها وفي تقييمها تحتاج إحكام النظر؟
في أحيان نادرة ولكنها موجودة يمكن أن يكون الخروج عن الموضوع في بعض الموادّ الفكرية كالنّقد والفلسفة مردودا إلى طريقة أخرى في التفكير، مشروعة بقطع النظر عن التزامها بروح الانضباط الأكاديمي، أو عدم التزامها به؛ لكنّ المقيّمين إن كانوا من حرس الفكر القديم عدّوه تهويما وخروجا عن الموضوع. في السياق الأكاديمي من الممكن أن تراقب الأفكار من جهة موضوعية ولكن يمكن أن تراقب أيضا من وجهة غير موضوعية ولكن بلحاف الموضوعية، ولا يمكن التفطّن لذلك إلا قليلا، ويمكن التفطن له ولكن يغض عنه النظر خوفا أو طمعا. مراقبة الأفكار ومناهج طرحها ونقدها مسؤولية أكاديمية شرعية وهذه مهمّة سامية للجامعات؛ لكن أن تصبح المراقبة محاكمة فتلك جناية فكرية.
صحيح أنّ مناقشة رأي برأي لا يناسبه أو إسقاطه عليه أو عدم فهمه هو من الأخطاء المنهجية، وصحيح أنّ التعصّب الفكري هو مردود شكلا ومضمونا في البحوث، لكنّه لا يدخل تحت طائلة الخروج عن الموضوع؛ بل يجب أن يسمّى باسمه الدّقيـــق ويشار إليه بحججه. لكنّ بناء الذات الفكـــــرية بمخالفــــة رأي سائد وبدفعه بالحجج العلمية الكافية لا يمكن أن يعدّ إلاّ تأسيسا لفكر آخر ينبغي للجامعة أن ترعاه، حتى لا تتهم بالمحافظة وبرعاية الفكر القديم. بعض الخروج عن الموضوع، إن كان يحتكم إلى الحجة والبرهان هو دليل فكر وقّاد وعلينا في السياق المدرسي والجامعي أن نشجع عليه لأنّه برهان على أنّ العقل يريد أن ينشئ سياقا فكريا خاصا علينا أن نرعاه. إن وقع في نفسك الآن وأنت تقرأ المقال أنّي خارج الموضوع؛ فالحمد للّه لك ولي على السّـــلامة لا على الاختلاف.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
من وجهة نظري مفهوم السياق الزمني والمكاني عندما يتم ذكر ذلك لموضوع ورقة الامتحان أثناء الدراسة،
وهنا إشكالية أهل الفلسفة من جهة والحكمة من جهة أخرى في دولة الحداثة، عند فشلهم في إيجاد إجابة سؤال، لماذا شبح الإفلاس يطارد الإنسان والأسرة والشركة وبالتالي الدولة في تونس عام 2018؟!
ومن هنا الحاجة إلى اعتماد تنفيذ مشروع صالح التايواني، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.