إن العرب، على مستوى المسؤوليات العليا، لم يفكروا في هذا الموضوع بتاتا. ولن يفكروا فيه في الوقت العاجل؟ ربما لأنهم في العمق لا يتحملون الحرية التي تشيعها السينما في المجتمع، أو ربما لأن السينما ليست مسألة إستراتيجية في ثقافتهم. وربما أيضا لأن الصناعة السينمائية تقتضي جهدا وصبرا كبيرين غير متوفرين لدى الحاكم أو المستثمر العربي الراكض نحو ربح اللحظة بدون إستراتيجية ثقافية أو حلم ما.
مع أن السينما جهاز استراتيجي خطير يغير الأشياء في العمق وإن بدا صامتا، لأنه يراهن على الوقت للتحكم في الذائقة الجمعية. لنا في الدياسبورا اليهودية مثال حي على ذلك.
في عز تيهها وهجراتها ومآسيها وأحزانها، وجدت هذه الدياسبورا في العصب المالي أولا، استمرارا لوجودها، لأنها كانت تعرف سلفا أنه لا قوة تحرك المجتمعات إلا المال، ولا استراتيجيات بعيدة المدى بدون وضع هذا المال في أمكنته الحيوية، أي الحاجة إلى العقل المنظم والمفكر. من هناك راهنت على تغيير صورة اليهودي القبيح الذي رسمته معاداة السامية بأبشع الصور، وضخمتها الحالة الفرنسية في القرن التاسع عشر عندما أصبح كل يهودي مشكوك في ولائه للوطن، وخائن أيضا. قضية الضابط الفرنسي الشاب دريفوس، الذي حمل على عاتقه هزيمة الجيش الفرنسي أمام ألمانيا، فاتهم بتسريب أسرار للعدو أو ما سمي بقضية Le bordereau، مثال حي لهذه المعاداة التي شكلت حلقة ثقافية وسياسية مهمة في زمانها، كان على رأسها الكاتب أميلا زولا الذي أنقذ دريفوس من إعدام محقق. عملت هذه الدياسبورا على تغيير هذه الصورة، فوجدت في السينما وسيلتها الحيوية. ليست هوليوود إلا تجسيد حي لذلك. فقد جُندت لاقتراح البدائل وتصنيع المستقل. الاستوديوهات السينمائية العظيمة لكل من إم.جي.إم MGM، وارنر بروسWarner Bros ، توانتيث ِسانتوري فوكسTwentieth Century fox، أنشئت كلها من طرف شباب يهود من الدياسبورا المهاجرة من أوروبا الشرقية. الإخوة وارنرWarner وسامويل غولدوينSamuel Golden ، ولويس مييرLouis Myer أو أدولف زوكر Adolphe Zukor هم من صنع السينما الأمريكية. لقد أدركت هذه الدياسبورا الذكية، قبل غيرها، في بداية القرن العشرين، أن السينما عصب ثقافي حاسم. وصلت مع الزمن إلى أن تشكل قوة حاسمة في تسيير الرأي العام الأمريكي. وهي حرب حقيقية ومشروعة، في الدفاع عن ذات أمام مخاطر التلاشي. من هنا نفهم بسهولة صورة العربي المتوحش التي بلورتها هوليوود بالموازاة مع صناعة صورة أخرى لليهودي المتحضر والمثقف والجميل والذكي والمحارب من أجل الحق. الدكتاتوريات العربية لم تعمل إلا على تأكيد هذه الصورة البائسة والمتخلفة للعربي، مع أن العبقرية العربية موجودة وتستغل بشكل سري في المخابر العالمية وفي مراكز الإنتاج العسكري الدقيقة، وفي الجامعات وغيرها، ولا أحد يسمع بها. بعد كل هذا الزمن وكل هذا المال المهدور، لم يفكر العرب في صناعة سينمائية قادرة على تغيير الصور الجاهزة عنهم والمشلّة لهم. حتى الاستثمار في السينما لم يكن، وليس واردا أبدا. لقد صنعت الدكتاتوريات من العرب، دجاجا ناعما، يتمدد مساء على الأسرة لاستهلاك المسلسلات التركية التي عوضت المكسيكية بدون أن تختلف عنها، فتشكلت الذائقة الاستهلاكية من خلالها. فلا وجود لأي تصور سينيمائي أو إعلامي لوضع العربي في المدارات التي تليق بعقله وثقافته وإمكاناته.
في كل دورات كان السينمائية، أو المهرجانات العالمية، بالخصوص في السنوات الأخيرة، لا نجد فيلما عربيا واحدا أنتجه العرب كليا، وإذا وجد، فهو في الأغلب الأعم أنتج بأموال غير عربية، وعلينا أن نتخيل ما يمكن أن يصحب ذلك من شروط وإجبارات. على عكس من السينما التركية و الإيرانية والهندية، وهي أقل بكثير من العرب مالا وإمكانات، ومع ذلك فرضت وجوها العالمي. الهنود مثلا، مروا عبر التقليد قبل الإبداع، فأنشئوا استوديوهات بوليوود الشهيرة، التي جعلت من الهند أكبر منتج سينمائي عالمي. متى نرى مستثمرا عربيا مميزا ومثقفا وكبيرا بروحه أيضا، يأتينا باستوديوهات عربوود، ويغير من صورة العربي نهائيا، ومن ثقافة الهزيمة وجلد الذات التي سلطتها هوليوود على العربي، بالمساعدة السخية للتخلف المحلّي ودكتاتوريات القرون الوسطى.
المادة الحياتية والتاريخية العظيمة متوفرة، خارج مسلسلات البؤس المعمم. سقوط الأندلس، الشخصيات العربية التي غيرت وجه الإنسانية كابن رشد وابن خلدون والحكيم الرازي وغيرهم، كلها مواد حية للدخول في المعترك السينمائي العالمي. يمكن أن يبدأ الأمر بسيطا ثم يكبر. الإخوة وارنر بروس الأربعة، هارولد، جاك، ألبير وسام، من دياسبورا بولونيا، بدأوا كمسيرين لقاعات السينما وانتهوا منتجين وتربعوا على السينما الأمريكية. فقد خلقوا أجمل مساحة للحلم، وأعادوا تشكيل المتخيل والذاكرة الجمعية والحاضر. فهل توقف العرب عن الحلم؟ السؤال الأكبر: ما هو الوضع الاعتباري للثقافة في الوطن العربي؟
واسيني الأعرج
قبل الحديث عن واقع الصناعة السينمائية العربية البئيس وجب التنويه بالدور الرائد للصناعة المصرية طيلة عقود ، غير أن الحديث عن تخلف الصناعة السينمائية العربية بصفة عامة و خاصة خلال العقود الأخيرة يبقى مشروعا ، و لعل أبرز تجلياته غياب أو ضعف الإستثمار في هدا المجال بالإضافة إلى غياب الإرادة لدى الطبقة الحاكمة . و من أبرز العوامل التي تكمن وراء هده الوضعية هو طبيعة التحالفات الطبقية السائدة في المنطقة التي تتميز بمعاداتها للثقافة و المثقفين بشكل عام و لكل ما له ارتباط بالعقل ، مع ملاحظة أن تلك الأنظمة تنفق بالفعل أموالا طائلة لترويج المنتوج ( الثقافي ) الدي يخدم مصالحها و المتمثل في تخدير الشعوب و في مقدمة هده البلدان السعودية التي تنفق بسخاء في هدا المجال . إن تطور وازدهار الثقافة بصفة عامة يتطلب شرطا أساسيا مغيب في البلدان العربية الا و هو الحرية ، كما أن المشكلة لا تقتصر فقط على الإنتاج بل كدلك إلى العرض ، فمع افتراض وجود منتوج سينمائي جيد ، فإنه سيكون ممنوعا من التداول نظرا للحساسية المفرطة التي تعاني منها النخب الحاكمة تجاه الثقافة المتحررة وخاصة منها الجماهيرية و في مقدمتها السينما و الموسيقى .
هل يمكن ان تقوم صناعة سنمائية بدون ارادة سياسية ، وقبل ذلك بكتابات روائية جادة وذات نوعية ؟
هل يمكن الحديث عن صناعة سينمائية في ظل افتقاد الرواية العربية- الا ما ندر – للقيمة الفنية والجمالية الت تليق فعلا بتمويل الصناعة السينمائية ثقافيا ؟
هل يمكن الحديث عن صناعة سينمائية وتاريخنا العربي والاسلامي اجزاء كثيرة منه طواها النسيان ؟
هل يمكن الحديث عن صناعة سينمائية وبعض كتابنا منشغلون بثقافة السرير وعابر السرير ؟
هل نريد صناعة سينمائية على شاكلة السيما المصرية التي خدرت العقول ، وشغلت الجماهير عن قضاياها الحقيقية، وزيفت التاريخ وصورت الهزائم انتصارات ، واشاعت الفاحشة والمجون – مع استثناءات قليلة-
سؤال المقال مشروع، ولكن البديل ليس في المستوى المطلوب .