تكلمت الولايات المتحدة الأمريكية بمفردات “القوة الخشنة” مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول بداية الألفية الثالثة، وركب الجميع موجة الحرب العالمية على الإرهاب بقيادة أمريكا، فهل حقق العالم ما يُريد؟ أم زاد تعميم الفوضى وتخريب الدول وانسياب الفقر والتهميش في حياة الشعوب، مع ازدياد الفرقة والتشظي في النسيج الاجتماعي لأغلب أمم الأرض.
وإن كانت أحداث 11 سبتمبر هجوما غامضا إلى الآن وفِعْلا غير سوي لم تواكبه أي توضيحات أو تصريحات حقيقية بعيدة عن التزييف والمؤامرة اتخذ من أناس أبرياء ضحايا له، دونما غاية يمكن رؤيتها في الأفق سوى الإرهاب لذاته، وهو بهذا المعنى يشكل قفزة ميتافيزيقية إلى مملكة أخرى، مملكة التجريد المجنون و”التعميمات الميثولوجية” الغامضة، كما سماها أدوارد سعيد. وهي قفزة قام بها أناس قاموا في ما يرى باختطاف الإسلام نفسه، لأجل أهداف تخصهم وحدهم. ولعل التدخلات العسكرية التي حدثت إثر هجوم سبتمبر هي التي دقت الإسفين الأخير في جسد الامبراطورية، التي جاهرت كذبا بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي الحروب الهمجية التي تراجعت بفضلها موجة التعاطف العالمية التي غمرت الولايات المتحدة بعد سقوط “البرجين”، لتحل محلها موجة الكراهية للغطرسة والنزعة العسكرية لهذا البلد، الذي لا يحترم القوانين الدولية.
المساعدات الأمريكية التي تقدم لأكثر من دولة في شكل معونات ومنح تهدف للسيطرة ومصادرة القرار المستقل لتلك الدول
ومن العناوين الكبرى لهذا القرن، المضي قدما بمنطق عزل الشعوب عن بعضها بعضا، وتفكيك نسيجها القومي، وابقائها في حالة الجهل والتخلف وفق منهج استعماري قديم ومتجدد بطرق الاحتواء والتبعية. فالدول الاستعمارية اعتمدت هذا المنهج، بعد أن أحكمت سيطرتها على البلدان التي تدخلت فيها غصبا وافتكت ثرواتها، وإلى الآن تشتغل تلك الدول وفق مشروع الهيمنة، وهو المشروع الأبرز للعولمة، وفق مبدأ اقتصاد السوق الذي يسر هيمنة الدول الرأسمالية الكبرى على بقية الدول المُفقرة والنامية، ايهاما بإشراكها في بنية الاقتصاد العالمي وإذابة الحواجز التجارية، في حين تجعلها أسواقا لسلعها، وفي المحصلة يستفيد الطرف الأقوى في مثل هذه المنظومة الرأسمالية. ولن تتغير معادلة التبعية ما دامت دول معينة تحت رحمة الدول المنتجة للمواد الأولية وجميع التكنولوجيات والتقنيات الحديثة، ناهيك عن استراتيجية المساعدات التي تُكبل الكثير من الدول، وتجعلها تحت رحمة الدول المانحة. فمنذ مشروع “مارشال” الذي مولته أمريكا بغرض إعادة إعمار الدول الأوروبية المتضررة من الحرب العالمية الثانية، وجدت الولايات المتحدة في المعونة الأمريكية الخارجية استفادة كبيرة، ولهذا تُعد الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية التي أنشئت في عهد الرئيس جون كينيدي عام 1961، من الركائز الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية، وهي من أهم الوكالات التي تعتمد عليها الولايات المتحدة، في مقارباتها الخارجية ضمن السياسة الدولية، فالمساعدات الأمريكية التي تقدمها لأكثر من دولة في شكل معونات ومنح تشمل، الجانب العسكري والاقتصادي والغذائي، هي وسيلة من وسائل القوة الاقتصادية الناعمة، التي تهدف إلى السيطرة والنفوذ ومصادرة القرار المستقل لتلك الدول في كل المحافل الدبلوماسية أو السياسية، ناهيك عن الشروط التي تفرضها الولايات المتحدة على تلك الدول قبل تقديم المساعدات، وعند الحاجة تُهدد أمريكا بقطعها في حال عدم مساندتها دبلوماسيا، كما حدث على لسان ترامب في أكثر من مناسبة في مجلس الأمن الدولي، وفي الجمعية العامة وغيرهما. فالمساعدات الأمريكية مشروطة وتعكس البراغماتية التي تصب في دعم السياسة الخارجية للبيت الأبيض، في سبيل بقاء واشنطن مهيمنة على أغلب دول العالم، ومتحكمة في المسار الدولي.
ولا يخفى على أحد أن المعونة التي تقدمها الولايات المتحدة لمصر وغيرها من الدول غرضها سياسي بامتياز، فهي وإن ارتبط بعضها باتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني، فإنها عنوان مباشر لتكبيل القرار السياسي والدبلوماسي ضمن العلاقات الدولية الراهنة، وهو ليس سوى شكل من أشكال مصادرة استقلالية القرار الوطني، والدفع نحو ارتهانه وتبعيته إقليميا ودوليا. وتلك سياسة في منتهى الابتزاز والنفعية تدخل ضمن استراتيجية واشنطن الشاملة في دعم السياسة الخارجية، بهدف تثبيت التفوق وترسيخ الهيمنة والمساعدات في الأدبيات السياسية، تُقدم في مقابل الخضوع والولاء وتقديم التنازلات في مختلف القضايا السياسية والدبلوماسية والاقتصادية أيضا.
*كاتب تونسي