سعد العبد الله الصويان وبانوراما علوم التطور البشري

حجم الخط
0

المؤلف باحث سعودي مختص بالتاريخ الشفهي والشعر النبطي في الجزيرة العربية، وله عدد من الأعمال في هذا المضمار، بينها «جمع المأثورات الشعبية»، 1985؛ و»حداء الخيل»، 1988؛ و»الشعر النبطي: ذائقة الشعب وسلطة النصّ»، 2000؛ و»فهرست الشعر النبطي»، 2001؛ و»الصحراء العربية: ثقافتها وشعرها عبر العصور»، 2010؛ و»أيام العرب الأواخر»، 2011.
لكن الأنثروبولوجيا بوصفها «علم الأمم المتحضرة» الذي يبحث عن «البذور البدائية للحضارة البشرية وجذور التاريخ الإنساني والغوص إلى أعماق النفس البشرية بحثاً عن طبيعة مشتركة بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والطبيعة»، هي اختصاص هذه الدراسة، المسهبة والبانورامية والشاملة؛ وأما مادتها، فهي ملحمة التطور البشري، كما يقول العنوان(*).
وينطلق سعد العبد الله الصويان من أنّ التفسير الأسطوري لنشأة الكون يقود بالضرورة إلى ما يسميه «النظرة الارتجاعية» في تفسير التاريخ، الأمر الذي يضفي على القديم شيئاً من القدسية والرهبة، وأنّ أي تغيير يطرأ على أي شيء في هذا الكون هو حتماً تغيير نحو الأسوأ. ومن هنا تأتي أهمية اعتماد المنطق العلمي في قراءة تاريخ الكون، فبقدر ما ينطبق هذا المنطق على العلوم الطبيعية فإنه ينطبق أيضاً على العلوم الإنسانية والاجتماعية. وبهذا فإن سلوك الإنسان، وجميع أنساقه الثقافية والاجتماعية، تحكمها قوانين يمكن اكتشافها عن طريق البحث وطرح الأسئلة.
وهذا ما يجهد المؤلف إلى القيام به في الصفحات الـ1104 من كتابه، فيقدّم دراسة جديدة بمعنى احتوائها على جرد كامل، أو يكاد، لمراحل التطوّر البشري كافة، وأبرز الإسهامات التي وفّرها علماء الأنثروبولوجيا في هذا المضمار، على مرّ العصور. وأهمية العمل، الجلية والفائقة، تتبدى أيضاً في ما بذله المؤلف من جهود شاقة لتعريب المصطلحات وتليين عريكتها.
بعد توطئة، تطري فضائل المقاربة العلمية وأفق الانثروبولوجيا، يبدأ المؤلف بقسم يتناول بداية الاهتمام بالحفريات، فيستعرض إسهامات الجيولوجيا، والسجل الأركيولوجي، واللقى والأحافير، والفارق بين التأريخ النسبي والتأريخ المطلق. ثم يعرّج على نشوء الحياة وتطورها، ابتداءً من تشكل الأرض إلى الأزمنة الجيولوجية، ويعود إلى أحافير الرئيسيات (أي الكائنات البدائية الأبكر)، مثل الباليوسين والأيوسين والأوليجوسين وسواها؛ وينتقل إلى الرئيسيات المعاصرة، وبينها طلائع القردة، فالسعادين؛ ويختتم القسم بمناقشة البشريات، من حيث البيئة، والإنسان المنتصب، والإنسان العاقل، والأسس البيولوجية للثقافة الإنسانية؛ وصولاً إلى الوراثة والتنوع الوراثي، والخلية وانقساماتها، والجينات والشفرة الجينية.
القسم الثاني، بعنوان «التكيف الإيكولوجي والديموغرافي»، يتناول الإيكولوجيا البيئية، من حيث سريان الطاقة، ودوران المادة، والاتزان البيئي، والتكيف، والوراثة، ودور هذا كله في تطور الأجناس. كذلك يبحث في الإيكولوجيا الثقافية، وفيها مسائل الحتمية الجغرافية والخصوصية التاريخية، والعلاقة بين البيئة والثقافة والإنسان؛ في أحقاب العصر الحجري، حين شكّل الإنسان الحجر واستأنس بالنار، وصنع القواطع والفؤوس الحجرية والشظايا والرقائق، وما تمخضت عنه هذه من نتائج ثقافية واجتماعية؛ وفي أحقاب بدايات الزراعة، مع شواهد أثرية من بلاد الشام وبلاد الرافدين، ونتائجها الثقافية والاجتماعية؛ ثمّ ظهور المدينة ونشوء الدولة، مقترناً بظهور التعدين، ومراحل التطور الحضري التي سبقت قيام الدولة، فبدايات القرى الزراعية من سومر إلى أكاد.
القسم الثالث يذهب إلى الاقتصاد، القديم أيام الإغريق والرومان، فالنظام الإقطاعي، وعصر النهضة؛ ثمّ الاقتصاد الكلاسيكي، في جملة مفاهيم مثل الندرة والمنفعة ورأس المال والإنتاج والتوزيع والريع والقيمة؛ وبعدئذ يفرد المؤلف فصلاً خاصاً لأفكار كارل ماركس، في الجدل الديالكتيكي، والعمل، والاغتراب، وقوى وعلاقات وأنماط الإنتاج، والوعي والوجود، ونظرية القيمة، وفائض القيمة؛ ثمّ يتناول الاقتصاد البدائي، وتداخله مع بقية الأنساق الاجتماعية.
القسم الرابع يبحث النسق الديني، ضمن محاور المفهوم الأنثروبولوجي للدين، وظاهرة الطوطمية، والشعائر عند الشعوب السامية، والقرابة والزواج في بلاد العرب القديمة، وديانة الساميين؛ مع وقفة مفصلة عند جيمس فريزر وكتابه «الغصن الذهبي»، ومنهجيته في دراسة حرب طروادة وتأسيس روما، ومراحل الانتقال من السحر إلى الدين إلى العلم، وسوى هذه من المسائل والأسئلة؛ تلي ذلك وقفة أخرى عند فرويد ودوركهايم وليفي شتراوس.
القسم الخامس يدرس البناء اللغوي، من حيث طبيعة اللغة الإنسانية، واللغة كنظام رمزي، والصوت والصوت اللغوي، والصوت والمعنى، مع وقفة خاصة عند لسانيات رومان ياكبسون. وأما القسم السادس فإنه مكرّس للبناء الاجتماعي، ويشمل المفاهيم الأساسية لنظم القرابة، ولمحة تاريخية عنها، وأعمال لويس هنري مورغان، وأنماط التزاوج، والتطور من الإباحة إلى الزواج الخارجي، واجتناب المحارم؛ ويُختتم الكتاب بمقارنة من التطورية إلى البنيوية، والبناء اللغوي مقابل البناء الاجتماعي.
والخلاصة أنّ العمل ينطوي على جهد كبير في استجماع موادّ متنوعة وغنية حول تاريخ التطور البشري الطبيعي، فيزوّد القارىء العربي بمرجع واحد شامل، وشبه متكامل، حول ملفات عديدة ليس من اليسير توليفها في مجلد واحد. ولعلّ هذه الفضيلة هي، في الآن ذاته، أبرز مشكلات العمل، كما يقرّ المؤلف نفسه، إذْ هيهات لكتاب واحد أن يلمّ بعشرات المسائل العويصة على نحو مرضٍ في الحدود الدنيا. هذا يطرح، في المقابل، فضيلة التخصيص والتحديد بالمقارنة مع التفصيل والإسهاب.
جدير بالذكر، أخيراً، أنّ العمل فاز بجائزة الشيخ زايد للكتاب، في دورتها الثامنة، 2014 ـ فرع التنمية وبناء الدولة؛ وذلك «للمجهود الضخم الذي بذله المؤلف في جمع المادة العلمية والاطلاع على طيف كبير من المناهج المستخدمة في العلوم الاجتماعية كما يظهر في الكم الضخم من المراجع، ولقدرة الكتاب على تتبع فكرة التطور ونقل منهجها من الميدان البيولوجي إلى الميدان الاجتماعي والاقتصادي والثقافي واللغوي والربط بين هذه الأبعاد، إضافة إلى تعزيز الدراسات الأنثروبولوجية في المكتبة العربية وهي دراسات قليلة مقارنة بالدراسات الاجتماعية».
(٭) سعد العبد الله الصويان: «ملحمة التطور البشري». دار مدارك، دبي، 2013. 1104 ص.

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية