الأصابع المقطوعة

حجم الخط
9

كشف الاغتيال الوحشي لجمال الخاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول عهرَ الأخلاق السائدة في هذا الزمن، وقدرة البترو دولار على شراء الصمت، ونجاح دونالد ترامب في ابتزاز النظام السعودي، الذي هندس الجريمة ونفّذها.
لا نعلم شيئا عن الصفقة التي تمت تحت طاولة دفاع ترامب عن رواية ولي العهد المليئة بالثقوب ثم تراجعه وتردده وإصراره على ألا تمس عقود مليارات الدولارات، واستنكاره المتأخر للجريمة. وهو دفاع متهافت لن يستطيع تحويل التلفيق إلى حقيقة. لكننا نعلم شيئا مؤكدا، هو أن دعارة الأخلاق تحاول تغطية الجريمة.
غير أن هذا ليس هو الموضوع، إذ لم يعد من المنطقي أن نبقى في دائرة خانقة اسمها الاستنكار، الذي يتشكّل صداه من طنين الحروف التي نكتبها، ويذهب كالهباء.
إلى جانب الاستنكار، الذي هو ضرورة، حتى لو كان بلا صدى في هذا الربع العربي الخالي، تعالوا نتأمل مسألتين:
المسألة الأولى تتعلق بمشهدية الجريمة؛ فلسنا فقط أمام فيلم رعب أريد له أن يكون مشوّقا، بل أمام جريمة علنية أيضا، فالمجرم يعتقد أن المال الذي يملكه سمح له بأن يحوّل العالم بأسره مسرحا علنيا للجريمة، من دون أن يبالي بالحد الأدنى من المتطلبات التقنية لكتابة سيناريو فيلم رعب سيئ الإخراج.
نعلم أن الجريمة هي ممارسة يومية لأنظمة الاستبداد العربية. فالخاشقجي ليس أول صحافي أو منشق يقتل، لكن القتل كان يجري داخل البلاد، أو عبر اغتيالات يقوم بها عملاء سريّون خارجها، أما أن يذهب رجل إلى قنصلية بلاده، ثم يختفي، ويكتشف العالم بعد ذلك أنه قُتل واختفت جثته، فهذه سابقة تسجل لولي العهد السعودي الذي دخل إلى المسرح السياسي بصفته مُصلحا!
المسألة أن «ولي الأمر» اعتقد بعدما رقّص الرئيس الأمريكي على طبول ملياراته، وبعد ارتمائه في الحضن الإسرائيلي، أنه صار قادرا على أن يفعل ما يشاء. متناسيا أن عصر الكاميرات والمعلومات سوف يحوّل إنجازه إلى فضيحة.
لماذا قتل الخاشقجي في هذه المشهدية البائسة؟
لاحظوا معي أن السؤال لم يكن عن مقتل الرجل، بل عن الإخراج، فلقد اعتدنا على الموت والاغتيالات في ظل مماليك هذا الزمن المنقلب، لذلك لا نسأل عن مبرر القتل، بل عن شكله! وهذا دليل على عمق الهاوية التي سقطنا فيها.
الجواب على سؤال المشهدية ليس سهلا، وخصوصا في ظل رداءة أداء القتلة وتصرفاتهم العلنية الرعناء.
اتخذت الجريمة شكلا احتفاليا، خمسة عشر رجل أمن جاءوا بالطيارة من السعودية، أحاطوا بالرجل وقاموا بتعذيبه وقتله وتقطيع جثته. لماذا هذا العدد الكبير؟ ولماذا هذه العربدة الدموية؟ هل أراد السعوديون تلقين درس لجميع المنشقين بأن لا شيء يحميهم، حتى لو صاروا من كتّاب جريدة أمريكية كبرى هي الـ«واشنطن بوست»؟ وهل كانوا يعتقدون أن لا أحد سيفضح الجريمة لأنهم يستطيعون رشوة الجميع؟

الجواب على سؤال المشهدية ليس سهلا، وخصوصا في ظل رداءة أداء القتلة وتصرفاتهم العلنية الرعناء.

أم أن هذه الرعونة تشير إلى عقلية بدائية مستبدة تورّمت بالقوة الوهمية فانفلتت من عقالها؟
المستبدون يتدللون، ودلالهم حوّل المشرق العربي إلى رجل العالم المريض بالتوحش. غير أن اغتيال الخاشقجي أعاد إلى الواجهة مسألة الأصابع، فالسفاحون قاموا أولا بقطع أصابع الخاشقجي التي يمسك بها القلم، جاعلين من قطعها مقدمة لتقطيع جثة الضحية بالمنشار.
الأصابع هي الموضوع، وأصابع الخاشقجي تنضم إلى المصير المأساوي الذي لاقته أصابع سليم اللوزي، الذي اختطفته المخابرات السورية في بيروت عام 1980، أمام حاجز لقوات الردع السورية على طريق المطار، ووجدت جثته بعد تسعة أيام على اختطافه مرمية في أحد أحراج عرمون، بعدما مُثّل بها. «إنجاز» القتلة الأول تمثّل في إذابة أصابع اليد اليمنى بالأسيد قبل الإجهاز على المغدور بالرصاص.
ما هي مشكلة المستبدين مع الأصابع؟
أغلب الظن أن قطع أصابع الخاشقجي جرى قبل قتله، وهذا هو حال أصابع سليم اللوزي، في الحالة الأولى كان قطع الأصابع مقدمة لتقطيع الجثة، بينما كان في الحالة الثانية مقدمة لتشويه جثة الصحافي اللبناني التي وصلت إلى ذروتها عبر غرس القلم الذي يكتب به في قفاه.
جريمة قتل اللوزي صاحب مجلة «الحوادث» جرت في وضح النهار، لكنها تمت في بيروت، وفي سياق الحرب اللبنانية، فقد مرت بشكل عابر ولم يتوقف عندها أحد. أما جريمة الخاشقجي فجاءت في ظرف عربي وإقليمي مختلف: صراع في الخليج، وحرب في اليمن، وتعبئة ضد إيران، ومليارات ترامب، وتربّص تركي، وارتماء خليجي في أحضان دولة الاحتلال الإسرائيلي، ومحاولة لتمرير صفقة لا يعلم مضمونها أحد اسمها «صفقة القرن».
جريمة بيروت امّحت في غابة جرائم الحرب، أما جريمة إسطنبول فتحولت إلى منصة للمقايضة والابتزاز السياسي، في مرحلة الفوضى العالمية التي تتجسّد في إدارة ترامب لإمبراطورية على شفير التداعي.
لماذا انصبّت سادية المستبدين، سواء أكانوا ملكيين أو جمهوريين، على أصابع الخاشقجي واللوزي لتحولها إلى رمز لمصير الذين يتجاوزون الخطوط التي رسمها الطغاة.
هذه الكراهية العمياء للكتابة صبغت الثقافة العربية بالدم، وجعلت من المعارضة أو الاعتراض دعوة إلى استباحة الدم.
غير أن الدم مستباح في الساحات العامة، من مجاعة اليمن والحرب العبثية المدمّرة فيها، إلى حقول القتل في سورية، إلى الدم والقهر اللذين يغطّيان فلسطين، وإلى آخره…
يبقى السؤال، لماذا هذه المشهدية السعودية المبتذلة؟
ومتى ترتفع الأصابع بالإدانة النهائية لهذه المرحلة التي تمتزج فيها روائح النفط بروائح الدم المهدور؟

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    تحية للصحافة الحرة وعلى رأسها الواشنطن بوست والنيويوك تايمز والغارديان ووووو وقناة الجزيرة ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول الكروي داود:

    معظم مقالاتك سياسية يا أستاذ إلياس, فهل أصبحت الثقافة سياسة؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول خليد المغرب:

    يبدو ان تصرف بنسلمان كان طائشا مفعما بالجبروت على طريقة الطغاة…لربما تكون مسرحية محبوكة وبطلها السعودية التي سقطت في الفخ…تصرف النظام الطاغي على طريقة الدواعش حينما يتم استقطابهم بتدبير من المخابرات العالمية والامريكية خصوصا…
    كيف يعقل ان يتم استدراج الضحية (رحمه الله) من امريكا الى تركيا دون ان تكون المخابرات على علم بما ستؤول اليه الامور. لهم الخزي والعار
    انهم اغبياء ووحوش في نفس الوقت واسكن الله الفقيد جنة الفردوس الاعلى.
    شكرا الاستاد عبد الجليل القلم الحر

  4. يقول سوري:

    لا فرق بين الطغاة، جميعهم جبناء لأنهم يخافون صرير الأقلام كما قال نابليون يوما: ” ألف مدفع أهون علي من صرير قلم” ويرتعدون من كلمات ليست في قواميسهم: حرية، عدالة، مساواة، ديمقراطية،.. وهذا الجبن يدفع بهم للقتل والإمعان في القتل بتعذيب الضحية، طغاة العرب لايختلفون عن بعضهم من المنصور الذي قتل المقفع الى المقبور حافظ الأسد الى محمد بن أبيه

  5. يقول عبادة:

    المماليك كانو أشرف ألف مرة من العملاء الخونة الذين يحكمون أمتنا. انتصروا على التتار، وقاتلو الفرنسيين والإنجليز الغزاة، وتركوا آثارا مازالت قائمة حتى اليوم في أرجاء القاهرة، وأوقافا يفيد منها الناس إلى اليوم. لا تضربوا المثل بالمماليك مهما كان انحرافهم فهم أكثر شرفا من بيادق الغرب واليهود.

  6. يقول مروان سعد....ألمانيا:

    في كل جرائم الاغتيال السياسي ,تكتشف الجثة ثم يبدأ البحث عن الجناة,ولا يزال الكثير منها قيد المجهول,أما في قضية خاشقجي فالعكس هو الذي حصل,تم اكتشاف الجناة ,ولا يزال البحث جار عن الجثة

  7. يقول سلمي القربي:

    سلمت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تكونو يولي عليكم زمان الأخ يقتل أخيه الأب يغتصب ابنته ضيعنا ديننا الإسلامي فظعنا كثرت أسامي ديننا الشيعة العلوية الحوثية هذه ثقافة الإستعمار فينا موش مليح الخمسة وهيا صلاوتنا ربنا يرحمنا الاسلام جاء غريب وسيرجع غريب أعيدوا الدعوة الصحيحة الاسلام والسلام

  8. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    شكراً أخي الياس, هي أول مرة أسمع عن قصة سليم اللوزي رحمه الله. كنت أعتقد أن عنوان المقال يشير إلى أصابع رسام الكاريكاتير علي فرزات التي كسرها النظام عقابا له!. لكن يبدو بالفعل أن الأصابع التي تكتب أو ترسم هي هاجس مخيف لأنظمة القمع, فتقوم بالإنتقام من الأصابع قبل صاحبها. ياإلهي إلى متى سيستمر هذا الكابوس, هذا التسلط والإستبداد, أنه إعصار مدمر سيستمر طويلا, إذا لم نستفيق ونتخلص من هذا الهول بكل قوانا ارادتنا.

  9. يقول krimo:

    قيل لالفريد هتشكوك اعد لنا تمثيل الجريمة فقال اني اخاف الله في النسخة الحديثة للإنجيل :: فرقة آبا السويدية

إشترك في قائمتنا البريدية