قد لا يختلف اثنان على أن مفردة «براميل» باتت تستحضر لنا كعربٍ صوراً للقتل والدمار وبالتالي تُقرن في أذهاننا بالديكتاتور ومخيّلته الإبداعية في إمكانية الاستفادة من «أشياء» تكون مرمية على الرصيف مسالمة ومهملة، وتحويلها إلى ما هي عليه الآن في سوريا. «أشياء» نشاهدها يومياً وقد ملأها الصدأ، دون أن تستدعي في أذهاننا أي إمكانية لتحويلها لأبشع ما يمكن أن يسكن في الذاكرة القادمة للناس في تلك البلد المنكوبة.
لكن، وإن كانت البراميل الوسيلة الأكثر همجيّة للقتل والتدمير في «سوريا الأسد»، إلا أنها لم توجد أصلاً لذلك، وإن صعب إقناع الأطفال السوريين بهذه الحقيقة المستجدة. للبراميل استخداماتها اليومية الروتينية المسالمة بل والمملة وأحياناً المتعبة، كما لها استخداماتها الجمالية في الأدب، كأن تكون في قصيدة للشاعر والمسرحي الشيوعي الألماني برتولد بريشت.
ما يعنيني من القصيدة هنا هو الحكاية فيها، هو الحالة الإنسانية الرفيعة التي يمكن أن تكون البراميل أساسها، في وقت استطاع فيه نظام الأسد أن يحوّل «الأشياء» المحايدة إلى بشاعات وكوابيس.
تحكي قصيدته «نسّاجو سجّاد (قرية) كويان بولاك يكرّمون لينين» (1929-1933) عن أحد التكريمات العديدة التي ينالها لينين من شرق الأرض إلى غربها، عن قرية صغيرة في آسيا، عن نسّاجي سجّاد فقراء يرتجفون من الحمّى. محطّة القطار تمتلئ بالبعوض وسحابة كثيفة تتصاعد من المستنقع خلف مقبرة الجِمال القديمة. يتحضّرون لتكريم لينين بأن يقيموا في قريتهم (أيضاً) تمثال جصٍ نصفي للقائد الشيوعي، فيتم تجميع النقود ويقفون جميعاً ويقدمون ما استطاعوا تحصيله بأيد مرتجفة من الحمى، ليرى جندي الجيش الأحمر الذي يعدّ النقود استعدادهم لتكريم لينين ويبتهج، لكنه يرى أيضاً أيديهم المرتعشة، وفجأة يقترح استخدام نقود التمثال لشراء نفط يُصبّ فوق المستنقع حيث يتوالد البعوض الذي يحمل جرثومة الحمّى، وهكذا بمكافحة الحمّى يكرّمون لينين. ثم استبدلوا فكرة تمثاله النصفي بنصب برميل من النفط القاتل للحمّى.
يقول بريشت في قصيدته بأنهم هكذا ساعدوا أنفسهم بتكريم لينين، وكرّموه بمساعدة أنفسهم، وهكذا فهموه جيداً.
هذه حالة إنسانية نبيلة يمكن أن يكون البرميل أساسها، بخلاف ما بات مقروناً به في أيامنا السورية الحالية، لكن لنترك جانباً فكرة تحويل نظام ديكتاتوري «الأشياء» المحايدة إلى أدوات قتل ودمار وبالتالي جرّها إلى بشاعات ورعب لن يتحرّر منها المدنيون في سوريا لسنوات طويلة.
هنالك في الحكاية فكرة قد لا تقلّ ارتباطاً بالحالة العربية والسورية، وهي ما قاله بريشت بأن النساجين الفقراء بما فعلوه إنما «فهموه جيداً» للينين بمساعدة أنفسهم، بأنهم كهذا يكرّمونه. فلا لينين ولا من خلفه ماركس وإنجلز سيكونون «سعداء» بتماثيلهم في وقت يمكن بما خُصّص من نقود لهذه التماثيل تطبيب وإشباع وتدفئة الفقراء، وهذا مفهوم مغاير تماماً للكثير من الشيوعيين العرب الذين لم يروا في الماركسية غير تماثيل وصور وأعلام حمراء وقبل كل ذلك وبعده ولاءٍ وتماهٍ تامَّين مع النسخة السوفياتية من الشيوعية ونقلٍ لأسوأ ما فيها، من تمجيد القائد إلى تبرير جرائمه مروراً بتخوين الخارجين عنه. وليست مفارقة أن يكون بريشت من أشدّ المنتقدين للاتحاد السوفياتي والستالينية.
اليوم، ليس فقط معظم الشيوعيين العرب غير معنيين بالفكرة الإنسانية التي حملتها قصيدة بريشت والتي برأيي بُنيت (ولا بدّ أن تُجدّد) على أساسها الماركسية، هم ليسوا أساساً معنيين باستبدال تمثال لينين ببرميل أنقذ الناس من الحمّى، بل ويكون ذلك تحديداً تكريماً للينين. لن يفهموا أبداً قصد بريشت وإن فهموه لن يتفهّموه.
هم معنيون بما يتلاءم وصور ستالين المعشّشة في أذهانهم، وتالياً بما يرونه استكمالاً «للوالد» ستالين ليس في حمل اللواء الأحمر للشيوعية، فالأسد لطالما اعتقل من يحمله، بل في أهمّ ما ميّز ستالين وهو التراوح بين القتل والتهجير والاعتقال، وهو ما يرون أشدّ أشكاله تفانياً وتطرّفاً مجسّداً اليوم في بشار الأسد. فلا نستغرب أن يستخرجوا من «لينينيّتهم» تبريراً لقصف الناس ببراميل تكون متفجّرة.
كاتب فلسطيني
سليم البيك
مقال جميل. للاسف نحن العرب اخذنا القشور من كل شيء وفقدنا مضمون كل شيء. هذا هو التفسير لدعم السفّاحين بيننا. اكيد سيكتب عنا الكثير. لا يكفي ما كتب وسوّد وجوهنا بل سيكتب كيف انتصرت الفاشيات مجددا في العالم العربي. من الكيلاني مرورا ببيير الجميل الى صدّام. حافظ وبشارالاسد والسيسي. لا ننسى اليمني صالح التعيس.
لماذا هذا الانقلاب بحق النازحين السوريين في لبنان بالامس كنتم تصرخون يقتل شعبه…. يدمر شعبه بالبراميل…… يا خسارة الحليب و الحرامات الخ الخ الخ