رواية «خليل» لياسمينة خضرا… الارهاب وتخييله الروائي

عبد المنعم الشنتوف
حجم الخط
0

يسعى الروائي الجزائري ذو التعبير الفرنسي محمد بولمسهول الذي اختار توقيع أعماله الإبداعية باسم زوجته ياسمينة خضرا في عمله الروائي الجديد المرسوم «خليل»، الصادر مؤخرا عن دار جوليا الباريسية للنشر، إلى الاستعادة التخييلية لحدث تاريخي تمثل في تفجيرات باريس الإرهابية في مايو/أيار 2015.
تتأاطر أحداث هذه الرواية جغرافيا بين باريس وبروكسل، وتخصيصا حي مولنبيك، الذي يشتهر من جهة بكونه عنوانا دالا على الحضور المغربي في العاصمة البلجيكية، ونقطة ارتكاز وعبور من جهة أخرى للعناصر الإرهابية التي أوكلت إليها مهمة تنفيذ هذه التفجيرات الإرهابية. نتساءل ونحن نقرأ فصول هذا العمل الروائي، ونصاحب الشخوص السردية في حركتها، ونرصد ردود أفعالها حيال هذا الحدث، عن حدود نجاح الكاتب في الاحتفاظ بمسافة مع هذا الحدث التاريخي، بما يستدعيه ذلك من ابتعاد عن التنميط والتبسيط والتقريرية في سياق الوصف وترتيب الحوار وتطوير الحبكة.
تتقاطع الرواية مع التاريخ في اعتمادها على الحدث، واشتغالها القوي على عنصر الزمن. غير أن الرواية تتميز باستثمارها للتخييل في سياق تعاطيها مع التاريخ.. ويفترض ذلك بالضرورة حضورا ومشاركة الذات التي تسعى من خلال القراءة التأويلية إلى تخليص الحدث التاريخي من راهنيته الضيقة والمباشرة، ووصل أسبابه بالماضي والمستقبل. ولأن التخييل يتعالى عن الواقع في صيغته المباشرة، بدون أن ينفصل عنه كلية، فإن الكاتب يؤسس من خلال هذا الوسيط وبتضافر آليات الكتابة السردية لرؤيته الذاتية لهذا الحدث التاريخي.
تبدأ الرواية من النهاية المأساوية لتفجيرات باريس الإرهابية، ونقصد تخصيصا رحلة هروب الشخصية المحورية «خليل»، وهو الناجي الوحيد من الفرقة الانتحارية. وغير خاف في هذا السياق أوجه التماثل التي يكتشفها القارئ مع اطراد وتيرة السرد مع شخصية صلاح عبد السلام، الإرهابي الذي أحجم بدافع الجبن عن تشغيل حزامه الناسف، قبل أن يتخلص منه قرب ملعب فرنسا في باريس، ويعود أدراجه إلى بروكسل، ليبدأ رحلة الهروب التي استغرقت أربعة أشهر قبل أن يتم اعتقاله. خطة الكاتب السردية وهي تمثيل لرؤيته الخاصة لما حدث في باريس، اختارت مسارا مغايرا لرحلة الهروب هاته. ذلك أن الشخصية الانتحارية في سياقها الواقعي التي ترددت في تشغيل حزامها الناسف سوف تتحول في سياق التخييل الروائي إلى ضحية لعطل تسبب فيه مصمم الحزام الناسف وستتخذ رحلته مسارا عجيبا بدأ بمنزل شقيقته المختلة نفسيا في مدينة مونس Mons البلجيكية مرورا بأحياء العاصمة بروكسل، وانتهاء بالفيلا الفاخرة التي يقيم فيها أمير التنظيم الإرهابي، في إحدى مدن الساحل البلجيكي.
حيث أن الفصل الأول الذي اختار له الكاتب عنوانا مشحونا بالدلالات: طيور أبابيل سفر في الأغوار السحيقة لهذه الذات التي ترغب في أن تقتل الآخر الذي يختلف عن رؤيتها إلى العالم، من خلال الفعل الانتحاري. ومع تنامي السرد وانجلاء المصائر الإنسانية التي تتضافر وتتقاطع حول رحلة الشخصية المحورية للرواية، يلفي القارئ نفسه حيال السؤال الرئيس الذي يوجه الخطوط العريضة لهذه المغامرة الروائية، والذي يتمثل في أسباب وجذور هذا العنف الأعمى، الذي يعصف بالذات وآخرها في آن.
تتعالق الشخوص المؤثثة لهذه الجدارية الروائية بموضوع العنف وتمثيلاته وامتداداته أفقيا وعموديا. فمن عنف أرض الريف، حيث الجدب والمحل وقسوة الفقر إلى عنف أرض الاستقبال وقسوة الغيتو والأفكار المسبقة الجاهزة المولدة للإقصاء والعنصرية، وانتهاء بعنف وقسوة الأب العربيد والبخيل.
يبدو الكاتب مهموما بالوصل العضوي بين العنف الثاوي في البدايات المشكلة لمصائر الشخوص التي ابتلعتها دوامة الاٍرهاب؛ ما يفسر حالة التضاد المطلق التي تؤسسها مع شخوص أخرى أتيح لها أن تنجو من عنف البدايات، وأشير تخصيصا إلى شخصية ريان صديق طفولة «خليل» الذي ستتيح له نشأته في وسط أسري ترعاه أم مطلقة ذات شخصية قوية وقلب مفعم بالحب والحنان، نجاحا باهرا في حياته الدراسية والمهنية، واندماجا فعالا في المجتمع البلجيكي. هل يكون في مقدورنا والحالة هاته باعتبارنا ذواتا متلقية، أن نفترض رغبة الكاتب في مد الجسور بين العنف والإرهاب والبنية البطريركية، بتراتبية قيمها وأعرافها ورؤاها للعالم، التي تحكم المجتمعات العربية الاسلامية. الأب صورة أخرى لأمير الجماعة الإرهابية، على الأقل من حيث طبيعة اللغة التي يوظفها والخطاب الذي يروم تأصيله في سياق علاقة الذات مع الآخر. يبدو هذا التأويل مستساغا من منظور الرؤية التي توجه فعل السرد. ذلك أن الفعل الإرهابي الانتحاري مقرون في الرواية حصرا بالذكورة، وتمثيل المرأة موصول بسمات الهشاشة والاختلال والمعاناة من قهر وسطوة الذكورة. والحال أننا نعرف كما يعرف يقينا الكاتب أن للمرأة حضورا قويا في مختلف شبكات الاٍرهاب الدولية. فهل يسعنا والحالة هذه أن ندفع بالافتراض التأويلي إلى حدوده القصوى، فنعتبر هذا الاختيار صرخة احتجاج وإدانة قوية للذكورة، بوصفها تمثيلا للأحادية والهيمنة، وجميعها كما نعرف، سماد خصب للتعصب والقتل الجماعي.
في سياق اشتغاله التخييلي على موضوع الاٍرهاب ومحاولته فهم ما جرى في باريس وبروكسل من تفجيرات انتحارية، سمح الكاتب لنفسه بأن يقسم العالم تقسيما مثنويا، تحكمه ثنائية الظلمة والنور، وعلى امتداد الفصلين المؤسسين لهذه الرواية، يلفي القارئ ذاته أمام تمثيلين أو صورتين تهيمنان بسماتهما. صورة الغرب أو أوروبا، حيث التقدم والعلم والأنوار والحريّة والتسامح والتعدد والاختلاف، والشرق أو العالم العربي الإسلامي، حيث الصحراء والعنف والأحادية والفقر والظلام، ويترتب هذا التقاطب الحاد وفق رؤية معرفية تتحكم في توجيه خطة السرد وتروم تخصيصا البحث عن جذور وأسباب العنف والإرهاب في الشرق والعالم العربي. لكأن مبدع سنونوهات كابل والصدمة يتوخى تبرئة ساحة الضمير الغربي من مسؤولياته التاريخية وضلوعه في تفريخ ورعاية الاٍرهاب. لا يسعنا باعتبارنا ذواتا قارية أن نعثر في الفصلين المشكلين لهذه الرواية على قرينة دالة على مسؤولية الغرب عموما وفرنسا تحديدا في نشأة واستفحال ظاهرة الاٍرهاب. سوف يعود خليل الشخصية المحورية إلى بروكسل بسهولة وبدون أي عراقيل وسوف يصرف حياته وفق إيقاع عادي، وفي تناقض صارخ مع السياق الحقيقي والواقعي لسيرة الشخصية الرئيسة في تفجيرات باريس. سوف يتمكن والحالة هذه من التنقل بيسر في أزقة الحي وزيارة أصدقائه وتناول وجبات طعام في محلات كباب، بل سيفلح أيضا في العثور على عمل عند تاجر أثاث تركي. وسوف يستشرف تطويع وتكييف فعل السرد مع الرؤية التي يتوخاها الكاتب، ذروته حين توقف دورية للشرطة البلجيكية «خليل» وهو يقود سيارة النقل التي كان يستعملها لنقل أغراض الزبائن، تفتيش عابر تأذن له بلطف بالغ بالانصراف وتتمنى له حظا سعيدا.
يتعالى التخييل السردي عن واقع الاٍرهاب وما حدث في باريس وبروكسل ليؤسس ليوتوبيا يتعذر استساغتها من منظور الحقيقة التاريخية. يترتب الصراع بين الشخوص والمواقف والمولد للحبكة الرواية على استثمار تبسيطي ومفتقر للتحليل العقلاني ومنطق الحقيقة التاريخية لثنائية الخير والشر. ويتساءل القارئ والحالة هذه كيف تمكن الكاتب وهو ذو الأصول الجزائرية من أن يمحو بجرة تخييل المئة والثلاثين عاما التي احتلت فيها فرنسا بلاده، والتي أتت على الأخضر واليابس علاوة على دورها القذر في العشرية الدموية السوداء التي عانت منها البلاد عقب إلغاء المسلسل الانتخابي، الذي فازت فيه الجبهة الاسلامية للإنقاذ، والذي كان للكاتب دور فاعل فيها باعتباره ضابطا سابقا في الجيش الجزائري، ولا ننسى في السياق ذاته «إرهاب» الدولة الفرنسية المنظم في أوائل الستينيات من القرن الفارط حين قذفت الشرطة الفرنسية بمئات من المهاجرين الجزائريين في نهر السين. وينبغي التذكير أيضا بالدور المشبوه الذي لعبته في ما أصبح يعرف بالربيع العربي، الذي أسهم بشكل فاعل ومقرف في تفجير قمقم الاٍرهاب في المنطقة.
آثر الكاتب أن يوجه خطوط الحبكة بحيث تستقيم والرؤية السردية التي يروم تأسيسها. واعتبارا لذلك شاءت إرادة التخييل أن تكون ابنة خالة خليل الشخصية المحورية إحدى ضحايا تفجيرات ملهى الباتاكلان في مستهل الفصل الأول من الرواية، وأن تلقى شقيقته التوأم مصرعها في تفجيرات ميترو مالبيك في بروكسل. وإذا كان هذا الاختيار التخييلي مسوغا بدافع الاحتجاج لعماء واعتباط وعنف وجنون الاٍرهاب، غير أن القارئ سوف يحيط علما بارتباط هذا الاختيار برغبة الكاتب في الاحتجاج، لافتراض مؤداه أن الاٍرهاب حدث عابر أو سحابة صيف أو شتاء يعقبه الربيع. ولعل هذا ما يفسر توبة خليل في النهاية وإيثاره العدول عن تنفيذ عمليته الإرهابية في ساحة جامع الفنا في مراكش المغربية. وقد أفصح عن هذه الرغبة في الرسالة التي بعث بها إلى صديقه ريان التي اختتمت بها الرواية:
اعتقد أن الواجب الحقيقي يتمثل في أن أترك الناس ينعمون بالحياة. لقد قررت انتظار الربيع. الرواية.
يمكن القول على سبيل التركيب أن رواية خليل سعت إلى الاقتراب على طريقتها من معضلة الاٍرهاب. غير أن الرؤية التي هيمنت على خطة السرد اتسمت بالتبسيط والتنميط واختزال معضلة الاٍرهاب إلى مجرد حدث عارض وعابر مرهون بقسوة وعنف الهجرة واختلال الأسرة ومجرد شتاء يعقبه الربيع. شاءت إرادة الكاتب أن يغض الطرف أو يتجاهل، الجذور التاريخية للظاهرة بما يقتضيه ذلك من استدعاء لسطوة متخيل تحكمه رؤية إلى العالم، تتأسس على تفسير حرفي للنصوص المقدسة وإقصاء مشبع بالحقد والرغبة في الثأر والتبخيس في حق الآخر.
تبقى الــــرواية في التركــــيب الأخير مكتوبة بأسلوب روائي يحقـــق للذات المتلقية المتعة. فاللغة رشيقة وتوظيفـــها في سياق السرد وتأسيس الحبكة لا يتســم بالرتابة بحكم ارتهانه لرؤية وفهم جليين لظاهرة الاٍرهاب.

٭ كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية