ثماني سنوات كانت لي فاصلة بين قراءة كتابين لمؤرخ الأفكار الأمريكي مارك ليلا. التجربة الأولى كانت مع كتابه «الإله المولود ميتاً. الدين والسياسة والغرب الحديث».
ينطلق فيه من أن البشر يحتاجون دائماً لمن يطمئنهم. لا تنفع المكابرة على هشاشة العالم التي نتأوّلها بطرائق مختلفة. لقد استهلكت الحداثة مقولات مثل «انفكاك سحر العالم» و«التاريخ هو تاريخ الحرية» لإمتداح نفسها، والتهوين من وطأة ما يضادها، لكنها مقولات منسوجة على منوال الحكايات الخيالية الموجهة للأطفال، وتحاكي بالتالي هذا الطفل الراكز فينا.
في كتابه «الإله المولود ميتاً»، أو إذا استعنّا بتعبير معجمي عربي آخر، «الإله المليص»، يسبر مارك ليلا استمرارية اتجاهين متناقضين في تاريخ المسيحية، أحدهما «استحساني للخلق» والآخر «متوجس من الخلق»، جاعلاً من الحداثة الفكرية والسياسية مساراً يتأسس على المنحى الأوّل. في الوقت نفسه، يحاجج دفاعاً عن الإنفصال النهائي الكبير بين اللاهوت السياسي وبين الفلسفة السياسية، مستخدماً إستعارة النهر الفاصل: النهر الضيّق من ناحية العرض والعمق من ناحية المجرى، بحيث أن المغامرين بالتنقل بين ضفتي اللاهوت السياسي والفلسفة السياسية محكومون حتماً بأن تجرفهم تيارات روحية ليس بمستطاعهم التحكّم بها. عنده أنّ خير سبيل لإعطاء هذا الإنفصال الكبير بين اللاهوت السياسي وبين الفلسفة السياسية حقه، هو الإقرار بأنّه إنفصال مبني على حساب فيه رهان وفيه مجازفة، الرهان بأنّه من الأجدى التفلت من عباءة الوعود الخلاصية الكتابية، بدلاً من محاولة التحكّم بها وتوظيفها أو استثمارها لصالح الخير العام.
مختلف تماماً كتابه الأخير، عن «اليسار الهوياتي» في الولايات المتحدة. فهذا أقرب إلى المانيفستو السياسي ـ السجالي. الصعوبة فيه ليست فكرية كما الأول، بل هي صعوبة أن تسلّم نفسك للتقسيمات التي يقترحها عليك المؤلّف. ليس سهلاً، بعد كل شيء القبول معه بأنّ «الحزب الديمقراطي» الأمريكي كان حزب «الطبقة العاملة» حتى أواخر الستينيات، وتحوّل اليوم إلى الحزب الباحث عن تكتيل «الأقليات الهوياتية» قبل أي شيء آخر. وحتى لو استدخلت المسافة الذهنية عن الدلالات الأمريكية للأشياء، سيظل صعباً عليك رؤية جون كينيدي أو ليندون جونسون قادة ميامين لكفاح الطبقة العاملة، أو المبالغة في تقدير أثر «سياسة الهوية» في حملة هيلاري كلينتون، بدلاً من تحديد الشرائح الأوليغارشية والبرجوازية المواظبة على الهيمنة على الديمقراطيين، بصرف النظر عن مدى توظيفها لـ«الهامش الهوياتي»، من دون أن يتحوّل هذا، جديّاً، إلى «المتن».
ثمّة شعور بالمبالغة، بالتلاعب بالأوزان والأبعاد وأنت تعبر صفحات هذه المساجلة، المليئة بالجمل الخطابية، عن «استقالة اليسار من دوره» في الولايات المتحدة، وعن افتقاده إلى الخيال، ثم يطلع عليك هذا الخيال حكاية عودة إلى مفهوم المواطنية المتساوية للجميع، وإعادة صياغة «النحن» الوطنية لما فيه خير الولايات المتحدة، وهكذا.
خير سبيل لإعطاء هذا الإنفصال الكبير بين اللاهوت السياسي وبين الفلسفة السياسية حقه، هو الإقرار بأنّه إنفصال مبني على حساب فيه رهان وفيه مجازفة
مع هذا، يلتقط مارك ليلا شيئاً ما، منحى ما، جوهرياً، بخاصة حين يميز بين نموذج حركة الحقوق المدنية للأفارقة الأمريكيين في ستينيات القرن الماضي، وبين الجماعات التي تحرّكت لنيل حقوقها بعد ذلك. فالنموذج الأول، اختار أن يأخذ بجدية مفهوم المواطنية المتساوية والكونية، الذي كانت تتنباه أمريكا البيضاء وتحجبهم عن الأفارقة الأمريكيين في آن. وبهذا المعنى، تنسّبت هذه الحركة للنموذج المصدري للآباء المؤسسين للولايات المتحدة. بالتوازي مع التطاحن الأوروبي في غمرة الحروب الدينية ثم أزمة النظام القديم، تطورت التجربة الأمريكية لتعطي المسيحيين أسباباً للتماهي مع الدولة، وهو أن الدولة تعطيهم الحق في التماهي مع ديانتهم. بالتالي تحول رابط المواطنية إلى إطار يحمي رابط الإنتماء الديني ويصونه. ثم تعاقبت الموجات المختلفة للمهاجرين من أقاليم أوروبا المختلفة، وهؤلاء أيضاً، رغم النزعات الكزينوفوفية الأنكلو ـ بروتستانتية بإزائهم، فقد انتصر فيهم الشعور بالتماهي القوي مع البلد والفخر بالمواطنة فيه، تحديداً لأن هذا الإنتماء لا يستدعي منهم اندماجاً ثقافياً كاملاً. تمكّنت أمريكا من تطوير تصوّر رحب للمواطنية يستوعب الإنتماء الإثني بدلاً من أن يقصيه أو يقمعه. حركة الحقوق المدنية في الستينيات ناضلت من أجل حقها في الإستفادة من هذا النموذج، والإنضواء في إطاره.
ما يبيّنه ليلا أنّه، خلال السبعينيات، وخصوصاً منذ الثمانينيات، توارت المواطنية عن المشهد، وبدل سؤال كينيدي «ما الذي يمكن أن أقوم به من أجل بلدي» (الذي يقفز منه ليلا أكثر من مرة إلى ذهنية التفاني الماركسي وعدم طرح سؤال «من أنا» عند المناضل، بكل مفارقات ذلك)، استبدّ في اليسار وعند النسويات وحركة حقوق المثليين وحقوق الأقليات الهوياتية المختلفة سؤال «ما الذي يتوجّب على بلدي أن يفعله بالنسبة إلى هويتي». يتتبع هنا ليلا هذه الطريقة في التعليل، التي تبدأ من اعتبار أن كل شيء مترابط، لتستنج بأنّه في كل مكان المجتمع يتآمر ضد الطبيعة البشرية لكل عضو فيه، وليجري الإنتقال من أنّ كل ما يبدو شأنا خاصاً هو واقع سياسي، وأن ما من مضمار إلا وهو داخل في الصراع من أجل السلطة، إلى اعتبار كل ما هو سياسي شخصي، فتتم بذلك نرجسة الوعي، والإستقالة من ثم من السياسة.
صحيح أنّه من الإختزال بمكان تفسير مآلات «الحزب الديمقراطي» الأمريكي بمثالب «يسار الهوية» هذا، لكن، بالنسبة للحالة التي يرصدها مارك ليلا، فهو يحاصرها بشكل سجالي فطن وممتع. فـ»يسار الهوية» هذا، هو اليسار الذي «أخذ علماً» بأن الطبقة العاملة تقاعدت ثورياً، وأخذ يمني النفس بأن حرم الجامعة كفيل بتشكيل جيل أخلاقي بيئي نسوي جذري، يعمّم من بعد ذلك تجربته في كل مكان خارج أسوارها. يوفّق مارك ليلا في تتبع هذا الركب الذي استظلّ بالأكاديميا كخشبة للسياسات الزائفة والوهمية والميلودراما، وفي أنّ «سياسة الهوية» هذه ليست سوى «ريغانية اليسارويين»، كونها ظهرت مع وصول رونالد ريغن إلى السلطة، ومناداته بالفردانية الإقتصادية وتدخل الحد الأدنى للدولة، فكان أن سابقه هؤلاء في الأنطواء على الذات ونرجسة الوعي. مع فارق أن اليمين، من ريغن إلى ترامب، سيظل يتوجه إلى العدد الأكبر من الناس، إلى «الديموس»، في مقابل ادارة هؤلاء «اليساريين الهوياتيين» الظهر له، إما بحجة أن الإنتخابات لا تقدّم ولا تؤخر، وإما من خلال تحويل الإنتخابات إلى جلسات تعويذ وشهادات مناقبية شخصية.
مشكلة هذا الكتاب كلما حاول إلباس الحزب الديمقراطي الأمريكي ثوباً عمالياً في السابق، خلعه لاحقاً بإتجاه الثوب الهوياتي، وفائدته في أنّه يعيّن بالفعل منحى هوياتيا يساريا، يكابر على عناصر تماثله أو محاكاته للهوياتية اليمينية. كان الحزب الديموقراطي «عماليا»ً بشكل جزئي فقط، وهو اليوم «هوياتي» بشكل جزئي فقط، لكن اليسار العالمي كان «عمالياً» إلى حد كبير قبل خمسين عاماً، وهو «هوياتي» أكثر فأكثر اليوم.
هل تكفي «المواطنة» الجمهورية بديلاً تطويقياً لهذا النزوع الهوياتي؟ قد تكون للكتاب الأخير لفرنسيس فوكوياما «الهوية. مسعى الكرامة وسياسات الحنق» مشكلات عديدة، لكنه على الأقل يلتقط معطى يكابر عليه ليلا، هو «الثيموس»، أو هذا الجزء من الروح الذي يرغب دائماً في نيل الإعتراف بمكانته وقدرته من قبل الغير، والذي يتراوح بين «الإيزوثيميا» أي السعي للإعتراف بك مساوياً في الكرامة مع الآخرين، وبين «الميغالوثيميا» أو السعي كي يعترف بك الآخرون كمتفوق عليهم. رغم هذه المكابرة على ما لـ«الثيموس» يقدّم لنا مارك ليلا مدخلاً أساسياً لمقاربته، هو عندما يظهر أن المشكلة ليست في مفهوم الهوية بحد ذاته ولكن في الحساسية الزائدة أو المغالية:
ليست فقط الحساسية المتطرفة، بل بالأحرى «الإرهاف» المقحم في كل شيء. نزعة «الإرهافوية» التي تزين لنفسه أن راديكالية بمعيار إشباع صورها عن ذاتها، وإعادة إنتاجها هذه الصورة لإعادة الإشباع. لكن، هل من سبيل لمناقضة الإرهافوية هذه، بالإرهافوية المضادة، بالتحسس الزائد من الهوياتية؟ هنا «ثيموس» فوكوياما تقترح علينا منفذاً آخر، هذا إن أمكن تفادي أشياء أخرى يقترحها فوكوياما…
كاتب لبناني