ما لا تستطيعه النساء… والرجال أيضا

حجم الخط
0

باستثاء بعض العلاقات التي عقدها الأب لم يحدث تخالط بين ساكني الناحيتين عين الشير وعين المير. عائلة الحايك، المقيمة في فيلتها وأرضها الواسعة لم تكن في أيام الوالد، إسكندر، منعزلة عن العالم، لكن علاقاتها انعقدت خارج علاقات الجوار، تبعا لما يقتضي العيش المحاذر في لبنان. هي علاقات عائلات بعائلات، قائمة على التضامن لدفع أذى الآخرين، وعلى تنافس وتحاسد يرجعان إلى السباق على المكانة والثروة. لكن ما تبقينا الرواية عنده، زمانيا ومكانيا، هو تلك الفيلّا، فيلا عائلة الحايك الواقعة ضمن أرض واسعة أقيم عليها أيضا مصنعان كبيران، هما ملْكٌ للعائلة أيضا. ربما ظنّ من عمّروا ذاك المكان أنه سيكون مستقرا آمنا للعائلة جيلا بعد جيل، وحافظا لمكانتها وثرائها مما تنتجه الأرض والمصنعان القريبان. لكن هذه الهناءة لن تدوم لأسباب عدة، بينها قرب حدود هذه المملكة الأرضية الصغيرة من أطماع الآخرين المقيمين في الجهة المقابلة من تلك الحدود. أما الزمن فقد عمل على تبديل جيران عائلة الحايك، مرة بعد مرة. في البداية كان المتدخّلون منهم هم أولئك الطفيليون الذين يشاهدهم حارس البيت يجتازون المسافة الفاصلة، ليصل بعضهم إلى مسافة قريبة من البوابة، مثل ذلك الولد الفلسطيني الذي اقترب إلى حدّ أن رأى كارين، ابنة البيت الجميلة، ممتطية صهوة حصانها مفكوكة نصف الأزرار عن صدرها. هذه الجيرة الأولى كانت تشكل إزعاجا في أحيان، وليس خطرا كما بدأ يحصل عند اندلاع الحرب، ابتداء من 1973، وهذه سنة الاصطدامات بين الجيش اللبناني والمقاتلين الفلسطينيين، وما تلاها خلال سنوات الحرب.
الراوي المتولّي ذكر تاريخ العائلة لم يصعد مرّة إلى مسرح ذلك التاريخ أو منصّته. كما أننا نرتبك إزاء كل محاولة لرسم شكله أو تحديد عمره، بل إننا، فيما نقرأ، لا نعثر له على اسم. فقط ذلك اللقب «القرش بالعرق» الذي أطلقه عليه ذات مرة معلّمه إسكندر، بعد أن استحسن هذا الأخيره طبخة السمك بالعرق التي أنجز طهيها. كان الحارس قد عايش ذلك الأب من بداية لم تعيّنها الرواية، واستمر حارسا للبيت وأمينا له بعد وفاة المعلّم وحلول ورثته المتفرقين المتخالفين من بعده. ودائما يتراءى لنا بلا زمن ولا عمْر ولا ملامح، هو شخصية مثل «رستم» البطل الملحمي في الشاهنامة الفارسية، لكنه بلا بطولة على الإطلاق.

  أعطى الرواية عنوان «فيلا النساء»، دالا بذلك على رغبته في جعل تفرّدهن ذاك ثيمته الأساس.

وجود سلبي لكن دائم مستمر إلى جانب العائلة جيلا بعد جيل وهو يؤدي الدور نفسه، حارسا أمينا للفيلّا ونسائها، بعد رحيل الرجال عنها. الأخوان نقولا وحارث ذهبا بعد وفاة أبيهما كل في طريق. طريق الأول، الأكبر عمرا، كانت في البذخ وإدارة الثروة بتهوّر وبحماسة الحالمين، ما أدى سريعا إلى نفادها، أما الثاني فمغامرته اتخذت سبيلا آخر، وهو الطواف في البلدان التي توصله إليها السفن التي اقتناها. وهو بطل هذه الرواية إن شئنا أن نميل بها إلى رواية البطولة المغامرة التي تنتهي بتخليص بطلها عالمه من الانهيار.
شخصيات أخرى في تلك الفيلّا أهمها المرأتان، وهما سيدة البيت ماري وأخت زوجها، المقيمة ساخطة دائما، في الطبقة العالية منه. هناك آخرون كثيرون بينهم جميلة طباخة المنزل والبستاني والخدم الآخرون الكثيرون، الذين حيّدتهم الرواية عن مجرى أحداثها، فلم يزد حضورهم فيها عن مجرد ذكرهم، بخلاف جميلة التي كانت تظهر بين الحين والحين. على أي حال، وباستثناء ضياع الثروة والأملاك، لم يجر على عائلة الحايك حدث خاص أو استثنائي، فما تسببت لهم به الحرب من خوف وانقلاب أحوال لم يعد فيه شيء يروى في خبر أو في رواية، لكن الكاتب شريف مجدلاني شاء، على قاعدة تناول الحرب التي سبق له أيضا أن تناولها في أعمال روائية مماثلة، أن ينوّع في مقتربه الروائي. من ذلك مثلا جعلُه الفيلاّ خالية من رجالها، وهو أعطى الرواية عنوان «فيلا النساء»، دالا بذلك على رغبته في جعل تفرّدهن ذاك ثيمته الأساس.
لكنهن لم يفعلن شيئا ولم يتحوّلن نحو شيء، لولا تلك المشاجرة بين سيدتي البيت، ثم المصالحة من بعدها، لم تخرج أي من النساء عما كانته في فصول الرواية الأولى. الرجال إذن هم الفاعلون، الأبطال، سلبا وإيجابا. حارث، الأصغر، أخذ الروايات إلى عوالم وبلدان وجزر وأرخبيلات، بقينا نتساءل إن كان تعدادها ووصف التنقل بينها قد أضاف إلى أحداث الرواية وفكرتها الشيء الكثير، خصوصا بعد أن بدا أن لا تأثير لهناك (أقصد تلك البلدان والأمكنة) على هنا.
أضيفت مغامرات حارث في البلدان إلى سياق الرواية، بما يشبه افتتاح هامش إضافي لتوسيع مجالها. أما البطل العائد من سفره وطوافه، والمنتظَر رجوعه من الجميع، فقصّر، بالمعني البطولي الروائي، عن أن يؤدي البطولة أو أن يكونها. تلك المبارزة بينه وبين قائد الميليشيا، بإجادة التصويب، بالمسدس ثم بالكلاشنيكوف، لم تكن النهاية المنتظرة لعودته. لم يكن ما حقّقه انتصارا إذ لم تتهيّأ للمعركة حلبتها وشروط قيامها، بالمعني الروائي، ثم أن على من يرغبون في مقارعة الميليشيات أن يجدوا وسائل وأساليب لم يصب بطلنا في اختيار الأكثر جدية من بينها.
ربما لم تعد الحرب هي نفسها. اختلفت عما عرفناه وعشناه هنا في لبنان، باتت أشبه ببداية أولى بعدما غلبتها حروب أخرى، في أمكنة أخرى، أكثر صعوبة وتعقّدا.

*رواية شريف مجدلاني «فيلا النساء» كتبت أصلا باللغة الفرنسية، وصدرت بالعربية مؤخرا بترجمة دانيال صالح عن «دار نوفل» في221 صفحة.

٭ روائي لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية