صعود الشعبوية السياسية ومصير العالم المتشظي

حجم الخط
0

ما من شك في أن اجتياح العالم لموجة صعود اليمين السياسي بأشكاله وأنواعه المختلفة، أمر لا يصيب المرء بالدهشة فحسب، بقدر ما يذكّر بالماضي القريب الذي سبق اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، عندما كانت الأحزاب اليمينية تهيمن على مراكز صنع القرار في الدول الكبرى.
فمن الفلبين إلى الولايات المتحدة مرورا بالبرازيل مؤخرا، من دون أن ننسى الهند والمكسيك وباكستان، تجتاح العالم موجة من القادة المثيرين للجدل، الساعين لتقديم الوعود لشعوبهم بتغيير مسار النظام السائد، مع السعي لزعزعة الحياة السياسية في بلدانهم. آخر موجات اليمين السياسي الصاعد بقوة حول العالم، بعد أن انطلق من القارة العجوز أوروبا، هو الرئيس البرازيلي الجديد جايير بولسونارو، مرورا بالرئيس الفلبيني رودريغو دوترتي المنتخب في 2016، الذي تقول الصحافة إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب “يبدو كالصبي مقارنة به”. يجمع هؤلاء القادة قاسم مشترك وهو أنهم “ترامبيون” إن لم يكن بعضهم أشد همجية وغطرسة من ترامب.
والحال أن مفهوم الشعبوية ما يزال ينتابه بعض الغموض لدى السياسيين، إذ يرى بعضهم أنه يمثل الديمقراطية غير الليبرالية، بينما يرى البعض الآخر أنه يمثل “الديمقراطية الاستبدادية”، وفي جميع الحالات، فالشعبوية أنتجتها ظروف معينة، منها الهجرة والفقر المتصاعد بين الطبقة الوسطى، والخوف من العولمة، والاستلاب الثقافي. يجسد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أكثر من أي شخص آخر هذه النزعة الشعبوية الثائرة، إذ وضع نفسه منذ انتخابه عام 2016 كمتحدث باسم “البيض من الطبقة الوسطى المهمشة” من لدن النظام في واشنطن. ونجح هذا المليونير الجمهوري بالفعل في كسب أصوات الطبقة العاملة في شمال شرق الولايات المتحدة، كما نجح بولسونارو في أن ينصب نفسه بطلاً يقود الحرب ضد الفساد في البرازيل، رغم أن ماضيه السياسي لم يعرف سوى بعض الجدل في البرلمان وغياب المسؤولية.
يتوجه بولسونارو بصفة خاصة إلى الطبقة الوسطى المتعلمة، لكن هؤلاء الناس لديهم الانطباع بأن الأحزاب الأخرى لا تختلف عن بعضها بعضا وأن السياسة عمل فاسد، الناس بذلك غير مخطئين، فالبرازيليون كانوا فعلا شهوداً في السنوات الأخيرة على الكثير من فضائح الرشوة في صفوف السياسيين. ويعود جزء كبير من نجاح بولسونارو إلى المجموعات الإنجيلية شديدة التأثير، الذين دعا خطباؤهم علانية إلى انتخابه. وهذا ليس صدفة، لأن الشعبويين والإنجيليين يعتمدون أجندة محافظة متطابقة، يتعلق الأمر بالنظام والعائلة وبالقيم التقليدية، وكلاهما (الشعبويون والإنجيليون) يبحثون عن التواصل المباشر مع الناس ويخاطبون العواطف قبل العقل.
ارتفع صوت الشعبويين في الهند مع رئيس وزرائها نارندا مودي، ومع رئيس الفلبين دوترتي، كما ارتفع في المكسيك مع الرئيس أندري أبرادور، ذي الميول اليسارية، رغم اختلافه عن الباقين. لتحقق الشعبوية نجاحات غير متوقعة، خاصة في الديمقراطيات الناشئة، وهي في الوقت نفسه تمثل تهديدا لهذه الديمقراطيات.

الشعبوية أنتجتها ظروف معينة، منها الهجرة والفقر والخوف من العولمة، والاستلاب الثقافي

لكن السؤال الذي يبقى يتمحور حول سر هذا النجاح، هل لأن الشعبوية استطاعت أن تحمل هموم ومشاكل الفئات المتوسطة كما يزعم المدير العام لمعهد فوندابول وأستاذ العلوم السياسية في باريس دومينيك رينيه؟ أم لأنها أصبحت استثماراً رابحاً لمن يحسن استغلال امتعاض أو حرمان وتهميش الشعوب، كما يرى مدير الدراسات في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية جاك سابير. ويرى رينيه أن نجاح الشعبوية لا يعبر عن وجود شعور شعبي متواصل عبر الحدود، يعبر عن المشاكل نفسها في كل دول المعمورة، بل إنها تركز على إبراز الاختلاف بين الشعوب.
تتغذى الشعبوية من الرشوة وانعدام الأمن، ومن الطبيعي جدا أن تكون حافزاً على كراهية الأجانب ومكافحة العولمة التي ترى فيها تكريساً للهيمنة الأمريكية.
تتميز “الشعبوية بنزعتها الانطوائية كما يلاحظ ذلك في أوروبا، التي يمكن اعتبارها مختبراً جنينياً لهذه الظاهرة، إذ يرى الساسة الشعبويون هناك بلدانهم، (بريطانيا البريكست والمجر وبولندا)، كأنها قلاع محاصرة يجب الدفاع عنها وتحصينها، ما حدا بالبعض لاعتبار الشعبوية ضرباً من الفاشية المنطوية على ذاتها عكس الفاشية المعروفة بنزعتها التوسعية.
في فرنسا أجرى الإخصائي في علم الاجتماع، كريستوف غيلي، بحوثاً عن انهيار الاشتراكيين الفرنسيين، يُعنى فيه بالطبقة الاجتماعية الوسطى التي تهمشت اجتماعياً وجغرافياً. ليس هناك حزب، لاسيما من اليسار يمثل مصالحها ويعتني بيأسها. والمنظمات المعنية بما في ذلك النقابات لم تعد تمثلها. وبالتالي فإن كثيراً من المواطنين يلتفتون إلى شخصيات سياسية جديدة، في هذه الحالة في اتجاه امرأة، هي مارين لوبين، رئيسة الجبهة الوطنية. لا يقتصر الأمر على أوروبا فقط، فهو ينطبق في جزء كبير على الولايات المتحدة الأمريكية. فالطبقة الوسطى التي تشعر بالتهديد ساعدت هناك ترامب على إحراز فوزه الانتخابي، ليس الفقراء هم من صوتوا لترامب، بل هي أصوات أشخاص من وسط المجتمع. وهؤلاء الأشخاص يشعرون في الغالب بأنهم لم يعودوا يعرفون وطنهم. وبعضهم يخشى الانهيار الاجتماعي، وآخرون يعارضون أمريكا المتنوعة والمفتوحة، ثم يأتي شخص مثل ترامب يتجاهل جميع القواعد القائمة ويعطي الانطباع بأنه يريد العمل في واشنطن والعالم من أجل فرض مصالح ناخبيه.
حالة الهياج القائمة في العالم والنزوع نحو الانطواء بعد عصر العولمة، والانزواء إلى الهوية المحلية والأسرية السياسية حالة تذكر بماضي العالم القريب، عندما كانت هذه الموجات من تفاقم النزعات القومية مدخلاً لاندلاع حربين حصدت الملايين من أرواح البشر، فهل بتنا أمام خيار تصفية ذواتنا والانكفاء نحو الداخل ومحاربة كل من هو مختلف عنا بحجة البحث عن الهوية الوطنية، التي تكاد تتشظى أمام التنوع القائم حالياً في المجتمعات الغربية؟ وهل سيتمكن النظام السياسي في البلدان الغربية تحديداً من وقف عدوى الانغلاق السياسي والاندفاع نحو اليمين المتطرف قبل فوات الأوان، وقبل أن تخوض الدول حروباً في ما بينها، وربما حروب أهلية!
كاتب وباحث فلسطيني في العلاقات الدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية