بمناسبة عودة الأصنام والتماثيل إلى الساحات السورية

نصف الشعب السوري وربما أكثر بين لاجئ ونازح ومشرد، وملايين المعتقلين والقتلى والجوعى. ووضع معيشي رهيب، وأسعار نارية تكاد تقتل المواطن السوري الذي لم يعد يستطيع براتبه الذليل أن يشتري الخبز ويدفع بعض الفواتير. وضع اقتصادي خطير، بحيث تحتاج سوريا مئات المليارات من الدولارات لإعادة البناء، ولا يتوفر معها سوى الملاليم، اللهم إذا استثنينا مئات المليارات التي يودعها رأس النظام وعصابته القريبة في البنوك الروسية والغربية في حساباتهم الخاصة. لكن بالرغم من كل ذلك، فبدل أن يبدأ النظام بالتخفيف على الأقل عن المؤيدين الذين ساندوه على مدى ثمان سنوات، وتحملوا كل أنواع الضيم والمعاناة، بدل أن يزيد في رواتبهم أو يساعدهم في حياتهم المعيشية القاسية، راح ينفق مئات الملايين على إعادة التماثيل التي داسها الشعب السوري إلى ساحات وميادين المدن السورية. ليس هناك اي إعادة إعمار سوى ترميم التمثايل المداسة، أو إعادة بنائها، وكأنه يريد أن يقول للسوريين: سأنتقم منكم جميعاً، وسأعيد إليكم الرموز القذرة التي أهانتكم وقتلكتم على مدى حوالي نصف قرن من تاريخ سوريا الحديث.
والسؤال المطروح: لماذا لا يتعلم هذا النظام الغبي من تجارب التاريخ؟ لماذا يريد أن يعرّض التماثيل للبصاق والرفس مرة أخرى. لماذا يدفع الملايين لقاء حمايتها من الشعب الذي يتحين الفرصة لإعادة الدوس عليها وتحطيمها كما حطمها قبل ثمان سنوات؟ هل يعلم النظام السوري لماذا ما زالت تماثيل العديد من الحكام الغربيين منتصبة في ساحات وميادين المدن والقرى الغربية منذ عشرات، لا بل مئات السنين أحياناً، بينما تقوم الجماهير بتحطيم تماثيل الحكام العرب بعد رحيلهم، وأحياناً أخرى خلال حياتهم، كما حدث ويحدث الآن للعديد من الزعماء العرب؟
السبب بسيط جداً لأنه لا يمكن أبداً فرض التماثيل بالحديد والنار، ناهيك عن أن الشعوب هي التي تبني عادة التماثيل والنصب لقادتها تكريماً لهم، وتحميها بعد مماتهم. أما عندنا نحن العرب، فالذي يأمر ببناء التماثيل لهذا الزعيم أو ذاك هو الزعيم نفسه أو نظامه أو المنافقون من حوله ليرهبوا الشعوب بها وبصوره على الطريقة الأورويلية بدون أن يدروا أن تلك التماثيل مصيرها التحطيم والزوال والدوس تحت الأرجل في يوم من الأيام، لأن الجماهير لم تكن راضية عن أصحاب تلك النصب أثناء حياتهم، فما بالك أن تقبل بها بعد زوالهم.
بعبارة أخرى، فإن الشعوب تـُمهل ولا تـُهمل، فأحيانا ينتظر التاريخ طويلاً قبل أن يُنزل عقابه بالطغاة والمستبدين، وأحيانا أخرى يقتص منهم قبل هلاكهم، كما حدث للطغاة العرب.
كم يبدو التاريخ صارماً مع الطغاة والسفاحين من الحكام، فهو يميل دائما إلى محاسبتهم ومعاقبتهم عقاباً شديداً دون أن ينسى جرائمهم وبشاعتهم بحق الإنسانية. تلك هي لعنة التاريخ على كل الذين أزهقوا أرواح شعوبهم لإرضاء نزعاتهم الدموية السافلة والحقيرة والدنيئة، فأقاموا دولهم المضرجة بالدماء فوق أكوام من الجماجم والجثث. وقد يقول قائل في هذا السياق إن التاريخ خلّد العديد من القادة العظام الذين تلطخت أياديهم بالدماء، ولم يضرهم هذا أبداً، وهذا صحيح، لكن انتصاراتهم وبالتالي فظاعاتهم كانت ضد أعدائهم، وهذا أمر مباح، لا بل يُعتبر نوعاً من البطولة، حسب مقاييس التاريخ.

الشعوب لا تنسى جلاديها حتى بعد مرور قرون على نفوقهم، لكنها أيضا لا تنسى قادتها العظام. انظر كيف عاقبت الشعوب العربية طواغيتها بتمريغ تماثيلهم بالتراب والأوساخ، وانظر كيف كرّمت الشعوب العربية أبطالها الحقيقيين الذين حرروها من رجس الاستعمار

أما بالنسبة للطغاة والمستبدين الجديرين بالاحتقار فهم أولئك الذين لم ينتصروا إلا على شعوبهم بالقتل والدمار والتشريد وتكبيل الحريات ودوس الكرامات، فهؤلاء لا تحل عليهم إلا اللعنات، وهم للأسف الشديد كثر، فالماضي البعيد والقريب مليء بالستالينات العرب الحاليين والبائدين، لكن مكانهم محجوز مسبقاً في قعر التاريخ، فالأسفل للسافلين دائماً.
وكما أن التاريخ يعاقب الجزارين والجبارين بطريقته الخاصة، فإنه أيضا يكرّم العظماء الحقيقيين، فالشعوب أذكى من أن تخدعها الألقاب الكبيرة وعبارات الإطناب والتعظيم المفروضة بقوة الحديد والنار والكلاب البوليسية وأجهزة الأمن، فتماثيل العظماء الحقيقيين تبقى لمئات السنين، ولا تؤثر فيها سوى العوامل الجوية من برد وصقيع وحر.
أما تماثيل أولئك الذين يزعمون العظمة، ويحاولون فرضها زوراً وبهتاناً عن طريق الترويع والتخويف والدعاية والأكاذيب وحملات التطبيل والتزمير والنفخ فهي آيلة للسقوط في أقرب فرصة مواتية، لكن ليس بسبب تقلبات الطقس، بل بأيدي الشعوب الثائرة، فتماثيل بعض الطغاة العرب كانت تملئ ساحات وأبنية العديد من البلدان، لكن ما أن أتيحت أول فرصة للشعوب كي تقتص من جلاديها حتى انهالت على تلك التماثيل بالفؤوس والأحذية والركلات، فلم يبق منها شيء يُذكر، فتم تدميرها وأحياناً حرقها عن بكرة أبيها، فالتماثيل تبقى لأمد طويل إذا كانت الشعوب راضية عن أصحابها فقط، أما إذا كانت ضحية لهم ولهمجيتهم وديكتاتوريتهم القبيحة، فهي تكون على أحر من الجمر كي تزيلها، وتبنى مكانها مراحيض عامة انتقاماً من الطغاة وميراثهم الوسخ. أين تماثيل ونصب القادة الشيوعيين فيما كان يُسمى أوروبا الشرقية؟ لقد تم رميها في مزابل التاريخ وهو مكانها الأمثل.
فالشعوب لا تنسى جلاديها حتى بعد مرور قرون على نفوقهم، لكنها أيضا لا تنسى قادتها العظام. انظر كيف عاقبت الشعوب العربية طواغيتها بتمريغ تماثيلهم بالتراب والأوساخ، وانظر كيف كرّمت الشعوب العربية أبطالها الحقيقيين الذين حرروها من رجس الاستعمار العثماني والبريطاني والفرنسي والإيطالي وغيرهم، فكل النصب التي أقامتها الشعوب لهؤلاء الثوار ما زالت شامخة تزّين ساحات الوطن العربي وميادينه بمباركة كاملة من تلك الشعوب، ورغماً عن أنوف الطغاة الذين حكموا البلاد العربية بعد الاستقلال، وحاولوا أن يفرضوا تماثيلهم الزائفة بالحديد والنار، لكن بينما ستبقى تماثيل المحررين الأصلاء منتصبة، فإن التماثيل المفروضة ستنهار عاجلاً أو آجلاً.
وينطبق الأمر ذاته على الشعوب الأخرى. انظر كيف كرّم البريطانيون وينستون تشيرتشل في استفتاء القرن! فقد اختاروه كأعظم زعيم بريطاني في القرن العشرين، وما زالت تماثيله البرونزية والحجرية منتصبة عالية شامخة في الساحات العامة والحدائق، فذكرى الزعماء العظام لا تحميها قوات الأمن والشرطة والحكومات المتعاقبة، بل ذاكرة الشعوب، أو بالأحرى ذاكرة التاريخ. ومن حسن الحظ فإن ذاكرة التاريخ ليست قصيرة جداً كذاكرة الفيل، بل تحتفظ بأدق التفاصيل، وبإمكانها أن تكشف حتى عن بقايا بصقة راقدة تحت حجر، فما بالك في عصر ثورة المعلومات. وهذا من شأنه أن يعاقب الطغاة ويفضحهم في حياتهم قبل مماتهم، ويسّهل مهمة المؤرخين في المستقبل. ولا شك أن التاريخ سعيد جداً بأدواته التأريخية الجديدة. فإلى الأمام يا تاريخ في مهامك الجليلة، وليبشر كل الطغاة بالمصير نفسه الذي لاقته تماثيل من سبقوهم، فمن جاء قسراً سيذهب كسراً!

كاتب واعلامي سوري
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول James Ricaud:

    عصافير البلد ستنتقم للشعب وتضع وسخها على رؤوس الطغاة

  2. يقول ismail khalil:

    مع كل احترامي وتقديري لعزيزنا الدكتور فيصل أريد أن أصحح نقطة علمية وردت في المقالة تتعلق بذااكرة الفيل حيث أن ذاكرة الفيل ليست بقصيرة وبالعكس من ذلك فهي تتمتع بذاكرة قوية.

  3. يقول الكروي داود:

    خير الدين بربروسير الدين بربروس باشا، (ميلاد: 1470 في جزيرة لسبوس – وفاة: 5 يوليو 1546 في إسطنبول)، ناظر (وزير) البحرية قائد القوات البحرية والي الجزائر بربروس خير الدين باشا. اسمه الأصلي خضر بن يعقوب وعُرف باسم خضر ريس (لقب لقباطين البحر) ولَقَّّبهُ السلطان سليم الأول بخير الدين باشا،هو أحد أكبر قادة الأساطيل العثمانية إن لم يكن أشهرهم، وأحد رموز الجهاد البحري. شارك مع أخويه عروج وإلياس في غزوات بحرية عديدة ثم تولى منصب حاكم إيالة الجزائر ثم عينه السلطان سليمان القانوني كأول قائد عام لجميع الأساطيل البحرية للخلافة العثمانية عام 1534م فانتقل إلى إسطنبول، وعزز السيادة العثمانية في البحر الأبيض المتوسط،ذاعت شهرته بسبب فتوحاته البحرية العظيمة. وضَع نظام السياسة البحرية العثمانية ونظَام حوضِ بناء السفن العثماني “الترسانة العامرة”. عن الويكيبيديا

  4. يقول أيمن:

    رضينا أو لم نرضا بحكم بشار أو النظام السوري الحالي فهناك ملايين من السوريين مؤيدين للنظام السوري ويدعمونه ووقفوا بجانبه هذه حقيقة لا نستطيع تغييرها ، كما أن نظام بشار لديه داعمين من الخارج وقوى عظمى تماما كأي نظام عربي أخر ، لا يوجد نظام في العالم راضي عنه الشعب بنسبة 100% وأيضا لا يوجد نظام في العالم لديه معارضين بنسبة 100% ، كما أن نموذج الدولة ال لا إسلامية داعش لا أحد يؤيدها ولا يتمنها الناس تفضل العيش مع نظام دكتاتوري بدل داعش والنصرة والقاعدة وأخواتها ، أيضا من حق كل نظام في العالم أن يحافظ على الأمن القومي للبلاد ، أمريكا الأن قواعدها العسكرية موجود في معظم دول العالم لتحافظ على أمنها القومي وبالتالي هناك دول عظمى وأخرى إقليمية حاليا تتخذ نفس النهج للحفاظ على أمنها القومي ، وهناك دول تقيم تحالفات وتعاون ودفاع مشترك مع دول عظمى ، النظام السوري يجب لا يكون وحيدا في وسط هذه التكتلات في العالم ..

  5. يقول خليل فلسطين:

    إعادة إعمار سوريا تبدأ ببناء أصنامها ,, اصنام الجاهلية لا تضر ولا تنفع والاصنام العربية تضر ولا تنفع .

  6. يقول محمد جبرؤوتي - ألمانيا:

    على الشعب الحذر فقد قام النظام بزرع ألغام حول بعض هذه التماثيل لهذا أنصح بإسقاطها عن بعد.

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية