الكاميرا هي البطل الذي يقوم بأدوار الحب والسلطة والقتل أيضا!
الروائي حمدي الجزار في روايته الأولي سحر أسود :الكاميرا هي البطل الذي يقوم بأدوار الحب والسلطة والقتل أيضا!القاهرة ـ القدس العربي ـ من محمود قرني: تثير الرواية الأولي للكاتب الشاب حمدي الجزار الصادرة عن دار ميريت للنشر بعنوان سحر أسود عددا من الاسئلة الملحة التي تثيرها الرواية الجديدة في مصر.وقبل الخوض في هذه التساؤلات لابد من الإشارة أولا إلي أن الرواية الأولي للجزار تدفع وحدها لارتكاب حماقات ضد الأقران، فهي بين الروايات القليلة الكاشفة لزيف الكثير من المطروح داخل هذا المشهد. الرواية في الاجمال أغنية معذبة بالذات وبالآخرين، فهي تتمسك في كل صورها بلغة تشذ عن هذا الحياد الذي يدينه الكاتب داخل الرواية، وفي المقابل سيبدو منحازا بالمعني الأرسطي الذي يؤطر وظيفة الفن في بدهيات الأولي مختزلة في القارئ الافتراضي الذي يلهث خلف هذا السراب الجميل والمشوق، في عالم بعضه صادق وبعضه كاذب، بعضه من صنع الطبيعة القاسية وبعضه من صنع المخيلة.وربما لأن حمدي الجزار اكتشف صوته مبكرا في الرواية، أراد أن يؤكد علي وجوده وصخبه طيلة أحداثها، وظل أقنوم الحب المتفرد بينه وبين سحره الأسود متقلبا تقلب العاشق، فهو بين الإقبال والإدبار مقيم ينتظر، أما السحر الأسود، فهو الكاميرا الياشكا الشهيرة في مصر، التي اشتراها له أبوه في صغره، بسبب محبته المفرطة للتصوير.والكاميرا في الروية معادل لأعلي السلطات التي تتحكم في مصير الروائي ككائن وكإنسان، فهي التي تصنع أولي العلاقات حميمية في حياته عندما يبدأ أول ما يبدأ بتصوير والده، ثم العلاقة التالية الأهم في حياته بينه وبين صاحب الاستوديو الذي يقوم بتحميض الأفلام له والذي يتعامل معه باعتباره فنان المستقبل الذي يستحق سعرا خاصا دون بقية جمهوره من الناس، ثم ان الكاميرا نفسها تكون الجذر الخلفي لأول علاقة حب في حياته مع بنت الجيران، حيث يصعد البطل إلي سطح البيت بصفة دائمة لالتقاط مشاهد مختلفة للشوارع والأسطح وكذلك تفعل بنت الجيران بدعوي مراعاة حظيرة الدواجن ويحدث التلاقي وتكون الكاميرا هي همزة الاتصال.في صورة أخري تلعب الكاميرا دورا جديدا ودالا عندما تتحول وظيفتها من مهمة التواصل الإنساني إلي مهمة القمع كسلطة إضافية تدعم ضعف البطل في مواقف بعينها، ويتبدي ذلك عندما يطلب منه شقيقه أن يلتقط له بعض الصور، لكن لم ينس أن يوضح أن هذا هو الشقيق الأكبر وهو ضابط في الجيش ذو عقلية عسكرية آمرة، في نفس الوقت يتعامل مع البطل باعتباره خادما لابد أن يقوم علي تلبية كل ما يطلب دون نقاش. لكنه في المرة الوحيدة التي يتحول فيها إلي مأمور تكون السلطة المطلقة فيها للكاميرا، ولا يتواني البطل في هذه الحالة من أن يتعمد إذلاله رمزيا بتغيير وضع وجهه وجلسته أكثر من مرة مؤكدا له أن وجهه من النوع الذي لا يصلح للتصوير، لكنه في النهاية لا يجد إلا الامتثال.ثم تتحول الوظيفة نفسها تحولات تبدو واعية وعي الكاتب نفسه بتجاوز المراحل المعرفية والعمرية تبعا للخبرات المختلفة والعلاقات الاجتماعية التي تبدو مؤثرة في محيط الحياة.يبدو ذلك جلياً في المرحلة التي التحق فيها البطل في احدي القنوات التليفزيونية كمصور تلفزيوني، وهي مرحلة تشهد تحولا يبدو جماليا محضا حيث تفقد الكاميرا حميميتها في جانب مهم يمثل زاوية شديدة الخصوصية في عالم البطل فلا يأبه بما تؤديه أثناء التصوير الذي عادة ما يرسم خطاه مخرجون غير مدربين ولا يفقهون شيئا في ما يفعلون وعليه هو أن يتحول بالكاميرا من وظيفتها الجمالية المحضة إلي وظيفتها الأدائية التي تنتهي براتب ضئيل لكنه حتمي لاستمرار الحياة.لكن هذا التحول الذي يبدو مفجعا ومحبطا بالنسبة للبطل لا يعني أن العلاقة التي تتشكل مع الكاميرا تتواري، بل هي موضع تساؤل حزين ومستمر، حتي لتكاد الكاميرا تكون الصديق الأوحد للبطل، رغم أن الكاميرا (الياشكا) الأولي التي ارتبطت به منذ الصغر توارت في ركن بعيد لا يفتأ البطل أن يتذكره بين حين وآخر لتحل محلها الكاميرا الديجيتال، وتبدو هذه العلاقة الفردية متجسدة في تصويره الذي يقول عنه ص 122: وضع شخص أمام عدسة كاميرا يعني لي الآن أن أقوم بعمل جاف وبليد، يعني أن تصير الكاميرا آلة طحن. ماكينة هائلة الضخامة ذات ترس حديدي كبير يدور، ويدور بسرعة الضوء فارما في وجهه كل ما يلقي إليه. آلة خرافية تسحق كل شيء دون هوادة، دون أن يهتز قلبها الحديد، وقد تقتل في عملها، البارد أباً أو أما، عاشقا أو عاشقة.. أو قد تقتلك أنت ، هذه هي الصورة المرعبة والقاسية التي انتهت إليها وتحولت عبرها علاقة الحب الفريدة بين البطل وهذه الآلة العجيبة ولا سيما عندما يسترسل البطل أنت لا تعرفين أنها لا تنحرف عن غايتها المحتومة قيد أنملة إذن تحولت الكاميرا تحولا مطلقا من كونها غرفة سحرية و عينا زجاجية حسب وصف البطل، يطل منها علي العالم إلي آلة يمكنها أن تكون قاتلة، ويفسر البطل هذه المشاعر المتناقضة عندما يقول ص 123 عندما أرفع ذراعي الأيمن لأحضن جسدها المستطيل، وأنزل بنصف جسمي العلوي ووجهي لأضع عيني اليسري علي عدستها اشعر في إلحاح بالرضوخ لها، بأنني أنا، لم أعد سوي جزء من جسمها، معدنها وزجاجها وقلبها الأسود . لكن هذه العلاقة تبدو أشد اختلافا عندما نجد أنها السبب المباشر في أهم العلاقات النسائية في حياة البطل، حيث يري فاتن للمرة الأولي عبر شاشتها عندما كان يصور إحدي الندوات في قاعة المؤتمرات، ورغم أن فاتن ليست شخصية الرواية الوحيدة ولا عقدتها المأساوية، فهناك نعمان صديق الدراسة، والتشكيلي المعتزل أيضا الذي اختار الوحدة بعد وفاة عبثية لزوجته الشابة الجميلة، وأبطال معهد السينما من الأساتذة والطلاب، إلا أن البطل الحقيقي الذي تتراوح درجات حضوره هو الكاميرا، التي تتراجع أمامها كل مفردات الحب في القاموس الشخصي للراوي البطل فهو بطول وعرض الرواية يؤكد استخفافه بمفردة الحب ويري أنها رديف للمعني المناهض علي وجه الدقة، وكأنه يتيح الفرصة للكاميرا لكي تستأثر بكل مضامين هذه المفردة.يقول ص 57: يبدو لي أن أقول لأحد ما كلمة أحبك أنني أهينه بشكل ما. لم أعد أقولها لأحد مطلقا. علي الرغم من أن أية امرأة، منذ لحظة لقائها الأول برجل سوف تنتظر، بنفاد صبر، أن تسمع منه هذه الكلمة المعجزة، وتصر علي الحصول عليها بأية طريقة.. . وربما لا يبدو التعليل كله مقنعا في سياق الوعي المجتمعي البائس الذي ابتذل معني أكثر سموا، لكن الصورة الإجمالية تعبر عن حالة من حالات الرفض للاندراج في سياق القطيع الذي يرفضه الفنان، أي فنان، لذلك تبدو صورة البطل أكثر استنفارا عندما يأخذ جانبا سلبيا من قضايا المثقفين وأحاديثهم المتوترة، لأنه مشغول بالعشق، هذه العلاقة الحسية الباذخة مع فاتن المرأة الناضجة التي تجاوزت الأربعين وانفصلت عن زوجها الطبيب المعروف لتعيش حياتها كما تحب. يقول الكاتب ص 82: لست مثل مثقفي اليوم، أتحدث عن السياسة، والفاقة والأزمة الاقتصادية والفساد.. إلخ.. الأجدر لي أن أتحدث عن الحرب والقتل والعنف والموت لأنني لا أتحدث سوي عن العشق. العشق فحسب .الرواية في مجملها تؤكد علي رؤية جديدة في الكتابة الروائية لا سيما في ملمحها الحسي الذي بدأ واستمر مع كاميرا تبدو البطل الحقيقي للرواية، أو عبر العلاقة بفاتن المرأة الجميلة الناضجة. وملمح الحسية في عمومه يتجرد من عناصر الولع والتشبب التي عرفها النموذج الروائي الرومانسي والواقعي معا، لذلك تبدو لغة الرواية علي قوتها التعبيرية، ذات لغة حسية مفرطة، تؤكد علي مفهوم تعيين الأشياء غير المتعينة في محاولة مستمرة لتجسيدها بما في ذلك المشاعر، لذلك يبدو البطل في غير حاجة حقيقية للتشبث بمفردة الحب لأنها يمارس محتواه الجوهري في السرير، لذلك لا حاجة هناك لتحويله إلي حلم غير قابل للتحقق.ويبدو حمدي الجزار في روايته الأولي مغاير إلي حد بعيد لأقرانه من الروائيين الجدد، رغم أنه اعتمد في روايته الأولي شأنهم ـ جميعا ـ قطاعا عريضا من سيرته الذاتية، ومناط الاختلاف في الرواية هو فيض التساؤلات التي تثيرها الرواية الجديدة التي أشرنا إليها في البداية.والفارق الجوهري ـ كما أراه وكما يراه الكاتب عبر روايته ـ هو أن حمدي الجزار يثق بالكتابة أكثر من غيره، يؤمن بقدرتها علي خوض معركة الإنسان، بل ربما كان يثق في إمكان تحقيقها الانتصارات، من هنا بدا منحازا بوعي كامل ومدروس، بدا صاحب لغة تعبيرية فياضة ودافقة وعاشقة، كشف فضائح الركاكة السردية لدي الكثير من أقرانه، كذلك يبدو مستعدا لمجابهة أبطاله من خلال الوعي بأدوارهم وهو أهم هذه الملامح، فالأبطال لا يتحركون بالقدرية الساذجة المتـواترة في رواية التفاصيل اليومية، بل ثمة أدوار أوسع وأعمق يلقيها الكاتب علي كاهل أبطاله، وهو ما يفسر معني إيمانه بالكتابة، فالعفوية والحياد والتلقائية كلها معان تؤكد علي مستويات من الوعي الضدي لما هو سائد، لكن الكارثة الحقيقية أن كثيرين فهموا ذلك علي انه تحلل من كل مرجعية مهما كانت نسبيتها.سيبقي القول أن رواية بهذه الحميمة والتدفق لتستحق تحية حقيقية وإشادة ضرورية بموهبة راويها حمدي الجزار، لكنني سأكون بين أشد المحزونين إذا حدث وكانت هذه أولي رواياته وآخرها أيضا، مثل كثيرين من أقران المرحلة.0